محمد إقبال... ما يزال الإقبال عليه مشوهاً وسطحياً


(الهالة) تختار أشخاصها:

وتختار أن ترافق بعضهم في الحياة وبعد الممات، مسجّلة أسماءهم في سجل الخالدين. من خلال سرٍّ قد لا يراعي موازيننا ولا اعتباراتنا، وقلما يخطئ هذا الاختيار، ونادراً ما يخفق. أما نحن العاديين فما علينا سوى البحث عن هذا السر، والسعي وراءه لعلنا نفهمه أولاً، ونحوزه أو نقترب منه ثانياً.
من هؤلاء المختارين محمد إقبال (1877 ــ 1938) ذلك المضفور من الحماسة والعبقرية، والذي أحاطت به هذه الهالة في حياته وهو لم يتجاوز الثلاثين ورافقته بعد مماته إلى الآن، وقد رآها طيف واسع من البشر: من الهندوس والمسلمين، من الصوفيين والسلفيين، من السنة والشيعة، بل حتى من الغربيين الأوربيين، فلقّب (الأب الروحي لباكستان)، و(شاعر الشرق)، و(فيلسوف الإسلام).

أما مؤهلات هذا الاختيار فمتعددة، منها:
 - أن من يقرأ شعره يظن أن إقبال قد لُقّح بكل الأعمال الشعرية العالمية الفذة في لغاتها (الأوردية والفارسية والعربية والإنكليزية والألمانية)، وأنه بات ينضح بها، ثم يعيد إنتاجها في سياق الشغل بموضوعات كبيرة تسمو بالقلب ولا يتطرق إليها الفساد.
 - وأنّ من يقرأ نثره يدرك أنه أمام عقل قد قرأ وهضم التراث الصوفي والكلامي والفلسفي: الشرقي والغربي على حدّ سواء، ويكفي أن نشير إلى وقوفه وجهاً لوجه، ونداً لند أمام كبار المتصوفين والمتكلمين والفلاسفة والشعراء محاوراً ومناقشاً ومحاجّا.ً  أما الأسماء التي يتعاطى معها فهي: ابن عربي، والحلاج، وحافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وغوته، ولينين، ووليم جيمس، ونيتشه، وشبنجلر، وباركلي، وهويتهد، وآينشتاين، وفرويد، وبرجسون، وغيرهم.
 - أما أعظم هذه المؤهلات وأهمها فالحب الذي لم يكن مجرّد حالة وجدانية عاطفية عابرة، بل كان، بالقياس إليه، مقوماً من مقومات الذات، وركناً من أركان (الإيمان) و(العمل)، وبهذا) الإيمان) يلتحق إقبال بسربه من أئمة العشق والوَلَه، وعلى رأسهم مولانا جلال الدين الرومي القائل: "ليس الحرام أن تنظر إلى وجه الحبيب، وإنما الحرام ألا يكون لك حبيب تنظر إليه"!
والقائل: "فاسعد، أيها العشق...
يا من أنت لنا جنون عذب.
يا طبيب كل أدوائنا.
يا شفاء كبرنا وبطرنا.
يا من أنت أفلاطون وجالينوس لأرواحنا".
أما أصدق وصف يمكن أن نلخص به حال إقبال فهو ما وصف به كزنتزاكس نفسَه: "روحي كلها صرخة، وأعمالي جميعها تعقيب على هذه الصرخة". وحقاً فقد كان إقبال صرخة وجدٍ ووَلَه، وصرخة تمرد على الاستسلام الرخو للوَهن الروحي والنفسي، بل والعقلي أيضاً، ذلك المرض الفتاك الذي أصاب الشرقيين والغربيين على حدّ سواء، ومن هنا فقد رأينا الغربيين، وبخاصة المستشرقين، يُعجبون بهذه النظرة الإنسانية الشاملة، وبهذه العقلية الفذة الطامحة لتلاقحٍ فاعلٍ ما بين الشرق والغرب، ولحوار حقيقي بين الحضارات، خارج حدود العبثية الاستعراضية، وبعيداً عن التنفّج والزهوّ والعزة الجوفاء.
قد لا يكون محمد إقبال أول مسلم يطل على النافذة الغربية فيرى الصورة المعنوية المدهشة الفوّارة الموّارة التي تسحر الألباب، وقد لا يكون أول من يستنشق عبير الفكر والشعر والقوة والعنفوان منها، لكنه كان بحق أوّل مسلم يقف هذا الموقف من دون أن يشعر بالامحاق أو التضاؤل، ولعل هذا ما ميّزه وجعله علامة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث باعتراف الغرب قبل الشرق، بل باعتراف الألمان أنفسهم الذين رأوا محمد إقبال يطرح نفسه نداً لأكبر رموزهم على الإطلاق: غوته ونيتشه، فلم ينكروا عليه هذه النِّدية، ولم يبخسوه شاعريته التي توازي في خلقها وإبداعها وآفاقها شاعرية غوته، ولم يغمطوه عنفوانه الفكري وتقحّمه الجريء الذي يشبه في مضائه وانطلاقه ما كان عليه نيتشه مضاءاً وانطلاقاً.
تصف المستشرقة الألمانية أنماري شميل أعماله بقولها: "آثار إقبال شبكة آسرة ذات خيوط مختلفة تمتد من الأصول الإسلامية إلى أحدث نظريات الغرب، من التحليقات الصوفية في الحضرة الإلهية إلى التحليل العقلاني للظواهر الروحية".
أما روائي ألمانيا الكبير هرمان هسه فيقدّم، في رأيي، أهم نصّ تعريفي موجز لإقبال، فكره ورسالته وأوجه تميّزه وفرادته:
"ينتمي السير محمد إقبال إلى ثلاثة أحياز روحية، وهذه الأحياز الروحية الثلاثة هي منابع آثاره العظيمة، وهي: حيّز القارة الهندية، وحيّز العالم الإسلامي، وحيّز الفكر الغربي.
مسلمٌ كشميري الأصل، مثقف بالقرآن، وبالفيدانتا، وبالتصوف الفارسي ـــ العربي، وفي نفس الوقت متأثر بالفلسفة الغربية وقضاياها. عارف ببرجسون ونيتشه. يقودنا في ممرات لولبية، ترتفع شيئاً فشيئاً داخل مناطق عالمه الخاص.
لم يعد متصوفاً، ولكنه أخذ العهد على جلال الدين الرومي، ولم يعد من أتباع هيجل، أو برجسون، ولكنه ظل فيلسوفاً متأملاً.
إنّ قوة إقبال تنبع من مجال آخر، من الدين والإيمان، فهو تقي صالح، قد نذر نفسه لله، ولكن إيمانه ليس إيمان الأطفال، وإنما إيمان رجل متحمس مجاهد، وجهاده ليس جهاداً من أجل الله فحسب، وإنما من أجل العالم أيضاً، فإن عقيدة إقبال موجّهة للجميع، وأمنية أحلامه هي إنسانية متحدة تحت راية الله، وفي خدمته.
لن يجد المسافرون روحياً إلى الشرق في ثقافة إقبال الواسعة، وفي حبه الفيّاض للتأمل، أهم وأعظم جوانب عقله الجبار، وإنما في قوة حبه، وفي قدرته على التشكيل، سيعجبون به من أجل تلك الشعلة الفيّاضة في قلبه، ومن أجل عالمه الشاعري، وسيحبون أعماله باعتبارها الديوان الشرقي الغربي".

وما يزال الإقبال على إقبال سطحياً ومشوهاً:
كان إقبال مسكوناً بهاجس (التجديد) الفكري، وإعادة البناء والإنشاء الفلسفي، أما الأسئلة التي أثارها فكانت من قبيل:
1 ــ هـــل مـــــــن الممكن العـــلم بالميتافيزيقيا؟ أو ما وراء الطبيعة؟
2 ــ هل المدخل إلى الحقيقة عن طريق ما يكشفه الإدراك الحسي يؤدي بالضرورة إلى رأي فيها يتعارض معارضة جوهرية مع رأي الدين في طبيعتها القصوى؟
3 ــ ما طبيعة الكون الذي نعيش فيه؟ وما بناؤه العام؟
4 ــ أهناك عنصر ثابت في تركيب هذا الكون؟ وكيف نكون بالنسبة إليه؟ وأي مكان نشغله فيه؟ وما نوع السلوك الذي يتفق وهذا المكان الذي نشغله؟
5 ــ ما الصفة المميزة للنفس؟
6 ــ كيف تنشأ النفس في داخل النظام الزماني المكاني؟
7 ــ كيف كانت النشأة الأولى؟ وكيف تكون النشأة الأخرى؟
8 ــ ما الطريقة التي تبدأ بها قوة الله الخالقة في الخلق؟
9 ــ أيمكن أن يسند التغيّر إلى الذات الأولى؟
10 ــ أليست الفردية تقتضي التناهي؟ فإذا كان الله ذاتاً، وهو بوصفه هذا فرد، فكيف يمكن أن نتصوره غير متناهٍ؟
والمطلع على خطة إقبال التجديدية يدرك أنه كان يبحث عن (التجديد) بدءاً من (الأسس)، ومن الرؤية الكونية الكبرى، ومن إعادة بناء التصورات الميتافيزيقية بناءً يستوعب كل المنجز الإنساني الذي كدحت الإنسانية في سبيل الوصول إليه، كل ذلك من أجل تــحــريــر المسلم، مــن سلبياتــه، وتحرير طاقاته وتفجيرها وتثويرها وإطلاقها.
أما الشرقيون ولا سيما العرب، فعلى الرغم من إشادتهم به، ومن الطنطنة بذكر اسمه فإنهم لم يكونوا خليقين أن يستفيدوا من شعره أو من فكره، ولا من خطته التجديدية التي شملت اللاهوت، والتشريع، وعلاقة الدين بالسياسة، ذلك أن الشلل الذي أصابهم، واجتاح كيانهم ما عاد ينفع معه تنبيه المنبهات، ولا تحفيز المحفزات! ومن أجل ذلك فقد أعادوا إنتاج هذا الجبل الباذخ مهذباً مشذباً، مغربلاً مصفّىً، فإذا هو حفنة رمل أو قبضة تراب، وعندها غدا شبيهاً بهم وصورةً عنهم، فأعلنوا تمجيده والاعتزاز به.
ومن هنا كان الأثر الوحيد الذي خلّفه إقبال فينا حينما قرأنا أشعاره المترجمة ترجمة ناقصة وغير وفية هو تنامي الغرور، وانتشاء الهوية الضيّقة المقزّمة. يقول عنه أستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: "وآمنت أنّ هذا هو الشاعر الذي ينبغي أن يُحتفى بشعره، ويحظى بالانحناء والإجلال، لأنّ شعره رسالة، وحبه إيمان، ووجدانه انتفاضة روحية، وهذه الصفات الثلاث من المشاعر جديرة بأن تجعله مجدد عالمه الذي يعيش فيه". غير أن الدكتور البوطي ما كان ليتبرع بهذا التقدير والإعجاب إلا لأنه قرأ إقبال مغربلاً بغربال أبي الحسن الندوي ومصفّىً بمصفاته، حيث يتحوّل إقبال عنده إلى مجرد شاعر يمجد الشخصيات الإسلامية ويفاخر بها حيناً، أو ينوح على ماضي المسلمين التليد ويرثي أمجادهم حيناً آخر. لكن ماذا عن المهمة الخطيرة التي ألقاها إقبال على عاتقه بأن يفكر تفكيراً جديداً في نظام الإسلام كله، وبأن يطرح نتائج تفكيره في آراء تجديدية جريئة مبتكرة تخالف المألوف وتصدم السائد؟ ما من خبر عن ذلك كله!

محمد إقبال والترجمات غير الوفية:
 ويكفي أن نذكر هنا أن الدكتور عبد الوهاب عزام أهم من ترجم أشعار إقبال إلى العربية قد قام في ترجمته لديوان) الأسرار والرموز( بالتصرف في الترجمة حيناً، وبترك أشعار لم يترجمها، لكنه أشار إلى عدم ترجمتها حيناً آخر، وبترك أشعار أخرى لم يشر فيها إلى أنه تركها حيناً ثالثاً، بل تجاوز ذلك حين ترك دفعة واحدة أكثر من ثلاثين بيتاً من الشعر عن (معنى الحرية الإسلامية وسرّ حادثة كربلاء)، ويرى د. سمير عبد الحميد إبراهيم، أن صنيع المترجم عبد الوهاب عزام قد يكون بإيعاز من إخوانه أعضاء مجلس إقبال )قلندرانه إقبال. أي: دراويش إقبال( في باكستان.
بل حتى إن الدكتور حسين المصري أحد مترجمي أطروحة الدكتوراة التي قدّمها إقبال قام بحذف الآيات القرآنية التي يستدل بها البابية والبهائية في سياق البرهنة على بعض ما يؤمنون به من عقائد وتصورات، إذ رأى أن من الخير - حسب قوله- الاستغناء عن ذكر بعض عقائد هذه الجماعة، فأغفل -كما يقول- ترجمة ما أورده إقبال، وعلى الأخص ما جاء من تفسيرهم لبعض آيات القرآن الكريم!!
غير أنّ الذي يثير الاستغراب فعلاً هو نزوع الدكتور حسن حنفي لتسويغ كل ذلك، واختراعه الإيراد تلو الإيراد، وسرده الظروف المخففة لذلك العبث!
فــ "أحياناً يفرض النظم العربي منطقه، فتحذف بعض الأبيات الفارسية، فالترجمة نظماً ليست ترجمة وفية، بل ترجمة فنية، التطابق بين النصين المترجم منه والمترجم إليه يجوز في النثر، من النثر إلى النثر، من شكل فني إلى شكل فني مشابه، أو على أقصى تقدير، من الشعر إلى النثر، ولكن ليس من النثر إلى الشعر، أو من الشعر إلى الشعر".
ثم يقرر، بما لا يمكن توقعه منه، ولا حتى تصوّره! فيقول: "وقد يكون السبب في حذف بعض الأبيات سبباً يتعلق بالمضمون العقائدي أو الأخلاقي أو السياسي، فالشعر ينتقل من بيئة لبيئة، من بيئة شيعية إلى بيئة سنية، أو من منظومة قيم حرة إلى منظومة قيم محافظة، أو من نظام سياسي حر، إلى نظام سياسي تسلطي، وقد تصرّف القدماء في ترجماتهم عن اليونان بنفس الطريقة، الحذف والإضافة، ولنفس الأسباب، الانتقال من الثقافة الوثنية إلى ثقافة التوحيد".
وأخيراً وعلى نفس المنوال من التسويغ يقول: "قد يكون المحذوف غير دال، وغير شعري. مجرد أبيات للربط. فليست كل الأبيات على نفس المستوى من الشعرية في الشعر الفلسفي أو في الفلسفة الشعرية"[1].





[1] انظر: حسن حنفي، "محمد إقبال: فيلسوف الذاتية". ص 12 وما بعدها. دار المدار الإسلامي. ط:1، 2009م، بيروت ــ لبنان.


محمد أمير ناشر النعم


المصدر: الحياة 6 حزيران 2015

هناك 4 تعليقات: