تتجدّد في كل عام ذكرى واقعة كربلاء، فتقام
الشعائر والمسيرات، وتعقد الندوات والمحاضرات، وفي أثناء ذلك تتحاذى بل تتزاحم
المتناقضات: حقائق وأساطير، مبادئ ومصالح، عقود وعهود، نكث ونكص، تمويه وأوهام،
يبوء بإثمها الملالي، يكررونها آناً بعد آن، وعاماً بعد عام، بلا رقيب ولا حسيب،
وسوف نقع على مئات المقالات والدروس والخطب واللطميات التي تحكي هذا التمويه، غير أننا
سنتناول الصورة التي يعتبرونها أكثر رقياً وسمواً حين يترنمون بالاستشهاد بأقوال الفلاسفة والمفكرين الغربيين الذين يشيدون
بالإمام الحسين ويمدحونه ويطرونه.
يستشهد الملا بهذه الأقوال كأنها الجبال
التي يثبّت بها أراضي قلوب المؤمنين أن تميد وعقولهم أن تضّطرب، ولا ينتبه إلى أنه
يتلفع بالغرب ويلتاث به رغم ادعائه عداوته، ودعوته لمحاربته. ويكرّر على أسماع
الأتباع في العشي والإبكار بأنّ الإمام الحسين شخصية عالمية، ظنّاً منه أنه سيغدو
معه عالمياً، فهو أقرب الناس إليه مرتبة، وأخصهم به مكانة، ويقدم بين يدي ذلك
تمويهات تضطجع في لبّها نزعة التغرب، ويقرفص في مشاشها الافتتان بالغرب:
التمويه الأول: كثرة
المسيرات الكربلائية في مدن الغرب:
يوهم الملا أتباعه ومستمعيه بأن عالمية
الإمام الحسين تضاهي الماركات العالمية شهرةً وانتشاراً، ويحيلهم إلى اليوتيوب
ليروا بأمّ أعينهم المسيرات المضطردة التي تجوب شوارع المدن الغربية الكبرى في
ذكرى عاشوراء، وقد اتشحت الأجساد بالسواد حزناً على مقتل الإمام، وتظللت بالرايات
التي يزينها اسمه وعباراته وصوره، ويقف المواطن الغربي يصور بموبايله تلك المسيرات
مأخوذاً أو كالمأخوذ، وهذا بحدِّ ذاته من أعظم الأدلة على هذا الحضور وهذه
العالمية
وواقع الحال أن المواطن الغربي يقف ويرى
مسيرة صاخبة تختلط فيها أصوات النواح والنحيب المنبعثة من مكبرات الصوت القوية
بأصوات صفع الصدور صفعاً شديداً يُرى أثره في البشرة احمراراً أو تسلخاً أو
تقرّحاً، (لن نتحدث هنا عن مشاهد التطبير، لأنّ وصفها بالكلمات سيكون أشد هولاً من
رؤيتها ومعاينتها)! سيقف هذا الغربي أمام طقس مسرحي ملغز مبهم تحفه رايات وسناجق
مطرّرزة بلغة غريبة لا يفهمها ولا يدرك فحواها.
هل تدفع هذه المسيرات المواطن الغربي
للاستزادة والاطلاع على مأساة إمامنا الحسين وقصة حياته، واتخاذه قدوة وأسوة؟ إنها
تدفعه بنفس النسبة التي تدفعنا بها مسيرة هندوسية تسير بزيّها التقليدي ترفرف
فوقها أعلام موشّاة باللغة السنسكريتية، ويُحمل فيها تمثال لقديس من قدّيسيهم أو
إله من آلهتهم. إنّ ما تسكبه هذه المسيرة فينا من علوم ومعارف هي نفس ما تسكبه
المسيرة الكربلائية في أذهان المشاهد الغربي وما تتركه لديه من انطباع، مع فارق
واحد وهو أن هؤلاء الأتباع من الهندوس يعيشون آمنين مطمئنين في بلدانهم، في حين أن
آلافاً مؤلفة من أتباع الإمام الحسين يفرون بجلودهم من أرض الحسين ودولة الحسين،
ويجتازون القفار ويركبون البحار حتى إذا ما وصلوا إلى ديار الغرب احتمى بعضهم
بالكنائس، خوفاً من الترحيل، وأعلنوا تغيير دينهم وانسلاخهم منه، وكفرهم بكل رموزه
وأئمته.
ولا يدور بخلد المؤمنين المستمعين كلام
الملا وهو يثبّت إيمانهم بالإمام الحسين عبر سرد الفتوحات الحسينية في الغرب أنّ
هذا الغرب يعيش في حالة كرنفال فلكلوري شبه دائمة، سواء تلك التي تخصّه أو التي
تخص المواطنين الوافدين، فلا يمرّ أسبوع من دون مهرجان أو كرنفال، وأنه لا فضل
لمهرجان على آخر إلا بحسن التنظيم والخدمة والمتعة، وأنّ جميع هذه الفعاليات لها
نفس الاعتبار ونفس القيمة! يتفاعلون معها بمرح، أو باستغراب، أو باندهاش! وفي كل
الأحوال بقبول، في حالةٍ واعية من التعبير عن ترسّخ مبدأ التعددية، وتمكّن صيغة
المجتمع المفتوح المستوعب لكل أفراده وفئاته.
التمويه الثاني: كثرة
المؤلفات الغربية التي تتحدث عن الإمام الحسين:
يعيد الملا ويكرر على الأسماع افتتان الغرب
بالإمام الحسين، وشغف مفكريه وأدبائه به، ويخلق انطباعاً عاماً بأنّ المؤلفات
الغربية التي أُلّفت عن الإمام تعد بالمئات إن لم تكن بالآلاف، ويستشهد في أثناء
ذلك بأسماء ذات جرس ورنين: إدوارد براون، دوزي، جولدتسيهر، ماسنيون. إلخ. وعلى
سبيل المثال نقرأ مقالاً بعنوان: (الإمام الحسين: في الكتابات الغربية)، ولكن
المفاجأة التي لن يتخيلها القارئ هي أنّ كل ما أُلف عن الإمام الحسين في أهم
اللغات العالمية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية) لن يتجاوز عدد أصابع اليدين،
ومن أجل ذلك سيعمد كاتب ذلك المقال للتمويه والتدليس فيذكر كل مستشرق تكلم في يومٍ
ما عن التاريخ الإسلامي أو التاريخ الأدبي بوصفه من كتّاب سيرة الإمام الحسين:
فلهاوزن وكتابه (أصول التشيع)، رودولف شتروسمان وكتابه (الشيعة الاثنا عشرية)،
إدوارد سخاو مترجم طبقات ابن سعد، وجوزيف هورفتس وكتابه (هاشميات الكميت الأسدي)،
بروكلمان وكتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) إلخ... إلخ. فهذه نماذج عن المؤلفين
والكتب التي تُطرح باعتبارها مختصة بالإمام الحسين تهويلاً ومكاثرة ومفاخرة.
إنّه جوع للكم والعدد والكثرة يجتاح الملا
بما يشبه القرم، فيبحث عن التحشيد بكل لهفة، وشوق، وبكل تدليس وتلفيق.
التمويه الثالث: تشبيه
الإمام الحسين بالسيد المسيح:
ويحلو للملا والمثقف الشيعي الشعبوي أن
يقارن بين الإمام الحسين وبين السيد المسيح، لإضفاء صفة العالمية على الإمام أسوة
بالمسيح، وأنّ هذا في حدّ ذاته أحد مداخل حب الغربيين للحسين وإيمانهم به.
وإذا كان المسيح شخصية عالمية فلمَ لا يكون
الحسين كذلك فالمشتركات بينهما كثيرة، ولا سيما الخاتمة المفجعة، والمصير المأساوي
الحزين الذي ينتزع من الصخر التأثر ومن الفولاذ التعاطف. ويوهم الملا أتباعه أنّ
العالم الغربي أقدر على فهم شخصية الإمام واستيعاب دوره ورسالته بما يحوزه من أوجه
شبه مع المسيح، ولذلك فالغرب يقدّر الإمام ويقيمه في أعلى منزلة، ولكن هذه
المقاربة تقوم على المغالطة جملةً وتفصيلاً، ويكفينا هنا أن نتناول جانباً واحداً
من جوانبها وهو أن المضاربة على اسم المسيح واللعب على التشابه بينه وبين الحسين
ما هو إلا مضاربة خاسرة، فالمسيح فقد بريقه ابتداءً من عصر النهضة، وغدا نوعاً من
الحمل الثقيل الذي يجب التخفّف منه قدر الإمكان، وأمسى لدى كثرة كاثرة أنموذجاً
للإخفاق، ناهيك عمّن حاول أن يثبت ويبرهن بأنه شخصية أسطورية لم يكن لها من
الحقيقة نصيب، فأي مكسب إذن من هذه المقاربة والمحاكاة؟ لعلها تنفع معنا فقط نحن
المسلمين!
إنّ هذه التمويهات هي إحدى أمثلة الابتلاء
بالتغرب الذي تحدّث عنه المفكر والروائي الإيراني الشهير جلال آل أحمد (1923ــ 1969) في كتابه (الابتلاء بالتغرب)، مدفوعاً بحسٍّ يساري عالمثالثي
إسلامي، يمقت نزعة التغريب التي انبثّت في إيران ظرفاً قاهراً وجائحة اجتاحت جوانب
الحياة كافة: السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، فما عاد من سبيل إلى ردّها
أو صدّها إلا بما يشبه المعجزة. وقد تناول جلال أحمد جذور التغرب في إيران منذ
العصور القديمة وصولاً إلى فترته الراهنة، وتتبع آثار هذا التغرب في كافة الجوانب،
وفي أثناء ذلك قرّر أفكاراً صادمة، وآراء جريئة من قبيل رؤيته أن تشيّع إيران كان
مظهراً من مظاهر التغرب أخرجها من الإسلام الشامل، وقذفها في نكبة ممتدة الأثر!
وربما كان أول شيعي يرى أنّ العصر الصفوي هو فترة التغرب الحقيقي في إيران، وأوّل
إيراني يصرّح بأنّ تأسيس الدولة الصفوية جرى بمساعدة الغرب للنيل من الدولة
العثمانية، (انظر: ص 45)، وتستمر نزعة التغريب في صورها المتعددة وصولاً إلى وقتنا
الراهن، وإلى أكثر الأماكن حصانة، أعني: المسجد والحسينية حيث رأى جلال آل أحمد أن
تسرب الأسماء الغربية في خطب الملالي ومواعظهم هو أحد مصاديق هذه النزعة:
"حتى في المسجد يستشهدون بأقوال المستشرقين ويستشهدون بـ كارليل وغوستاف
لوبون وإدوارد براون وجوبينو وآخرين" (ص (102.
لم يكن هذا الداء
مقصوراً على علماء الشيعة، ولكنه كان ابتلاءً عاماً كاسحاً، ولطالما تم الحديث عن
النزعات التغريبية في العالم السني، ولكن لم يتم استقصاؤها في المشهد الشيعي، حيث
تنبثق من لب المتن المحافظ الموغل في كلاسيكيته والمغرق في حرفيته.
محمد أمير ناشر النعم
المصدر: https://www.syria.tv/SnZ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق