(المفتي الماجن) وصفٌ أطلقه الإمام أبو حنيفة على صنف من المفتين يعلّمون الناس الحيل الباطلة، أو يفتونهم بجهل وحماقة، وتضرب كتب الفقه الحنفي مثالاً لذلك بأن يعلّم المفتي المرأة التي تريد فراق زوجها أن ترتدّ عن الإسلام، حتى يُفسخ زواجها، وتَبِين من زوجها، فلا يملك الزوج حق إرجاعها، كما كان يملكه في الطلاق الرجعي، وبعد الفسخ تعود المرأة إلى الإسلام وتدين به!
وكأني بــ (المفتي الماجن) ههنا يغدو في هذه الصورة كهاروت وماروت اللذين ورد ذكرهما في القرآن الكريم: {وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقول لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} (البقرة: ١٠٢ ــ ١٠٣).
وفي اختيار أبي حنيفة هذا الوصف (الماجن) حذق وعبقرية، فوصف الماجن في الاستخدام والاستعمال يترافق مع أوصاف: الفسق، والخلاعة، والتهتك، وقلة الحياء، والخبث، والظرف، والهزل. وهذه أوصاف تليق بالمفتي الماجن وتناسبه، ويناسبه أكثر المعنى الأساسي للكلمة، فالمجون كما يرد في مختار الصحاح: "ألّا يبالي الإنسان ما صنع"، والماجن كما في لسان العرب: "هو الذي يرتكب المقابح المردية والفضائح المخزية ولا يمضّه عذل عاذله ولا تقريع من يقرعه"، وينقل ابن منظور عن ابن سيده قوله: "الماجن من الرجال الذي لا يبالي بما قال ولا ما قيل له، كأنّه من غلظ الوجه والصلابة".
والحديث عن (المفتي الماجن) لدى الإمام أبي حنيفة يضعنا أمام عدة مفارقات لدى الإمام نفسه. فإذا كان المفتي الماجن هو من يعلم الناس الحيل والتحايل، فإن الإمام أبا حنيفة هو أوّل من علّم الناس (الحيل الفقهية)، وقد افتخر تلامذته بذلك، وحفظوا لنا المسائل العديدة التي قدّم فيها الإمام الحيل، ولكن تسمية الإمام للمفتي الذي يعلم الناس الحيل بالماجن دليل على أن أبا حنيفة يميّز بين نوعين من الحيل. الحيل التي تتماشى مع روح الشرع ولا تناقض مقولاته العامة، وترفع الإصر والأغلال عن الناس، وترفق بهم، وتقدّم لهم المخارج من دون أن تحلّ حراماً أو تحرّم حلالاً وفق مبدأ {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: ٢ ــ ٣)، والحيل التي تلتفّ على مراد الشارع إلى درجة التناقض معه، فتتعامل مع أحكامه معاملة صورية محضة تهتك من خلالها جميع مرادات الشارع القائمة على العدل والإنصاف والتسليم لله تعالى. على أنّه ليس من شأننا الآن أن نعدّد أقسام (الحيل)، ولا أن نستفيض في إيراد أمثلتها، فهذا مما تكفّلت به كتب التراث كـ (إعلام الموقعين عن رب العالمين) لابن القيم الجوزية وغيره، ولكن حسبي أن أقول: يبدو أن هذه المعالجات التي اشتُهر بها أبو حنيفة في إماطة العنت عن تصرفات بعض الناس دفع ثلةً من راكبي الفقه لتقديم حلول ونصائح ومخارج لا يمكن وصفها إلا بالمجون الذي ينطوي على كل المعاني المصاحبة لهذه الكلمة التي أتينا على ذكرها آنفاً، ولذلك أطلق الإمام هذا الوصف الجديد في دوائر الفقه الإسلامي، أعني: (المفتي الماجن)، ويبدو أن دور الوراقة في بغداد بدأت في تلك الآونة تجمع هذه الحيل السخيفة موزعةً على أبواب الفقه، وتقدمها باسم الإمام وتلامذته، ويحدثنا السرخسي في كتابه المبسوط أن أبا سليمان الجوزجاني، وكان من تلامذة الإمام الشيباني، ينكر نسبة كتاب الحيل إلى محمد بن الحسن الشيباني، فقال: "من قال إنّ محمداً صنّف كتاباً سمّاه (الحيل) فلا تصدّقه، وما في أيدي الناس فإنما هو ما جمعه ورّاقو بغداد، وإنّ الجّهال ينسبون على علمائنا رحمهم الله ذلك على سبيل التعيير، فكيف يُظن بمحمد رحمه الله أنّه سمّى شيئاً من تصانيفه بهذا الاسم ليكون عوناً للجهال على ما يقولون".
ولكنّ تلميذاً آخر من تلامذة الإمام الشيباني اسمه أبو حفص روى الكتاب عن أستاذه، وقال إنه من تصنيف أستاذه الشيباني، وقد رجّح السرخسي هذه النسبة واعتمدها في كتابه المبسوط. وعلّل ذلك أنّ "الحيل في الأحكام المخرجة عن الآثام جائز عند جمهور العلماء، وإنّما كره ذلك بعض المتقشفة لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسنة". وواضح هنا أن الحيل التي ينكر أبو سليمان ورودها عن الأئمة هي غير الحيل التي رواها أبو حفص.
ومن المفارقات الأخرى التي تطالعنا في هذه القضية أنّ الإمام أبا حنيفة يدعو للحجر على (المفتي الماجن) بمنعه من الإفتاء منعاً مادياً، وهذا ما يخالف توجّهه الأساسي الذي يرى في الحجر تقييداً لحرية الإنسان، ولذلك سوف نراه يرفض الحجر على السفيه الذي لا يحسن التصرف بماله، فللسفيه الحرية الكاملة في ماله، وهو يتحمّل تبعات تصرفاته كلها، إن خيراً فخير أو شرّاً فشر، ويرفض الإمام كذلك الحجر على المدين، ويرفض عدم إنفاذ تصرفاته القولية، لأنّ الحجر على الإنسان فيه ضرر أكثر من الضرر اللاحق بالدائنين في تأخير حقوقهم، ففي إهدار الأقوال ضررٌ بالغ لا يعدله تأخر إيفاء الديون، ويرى الإمام أنّه يمكن الجمع بين حقّ المدين في حرية القول وتنفيذ تصرفاته القولية المعبّرة عن إرادته التعاقدية وبين حق الدائنين باستيفاء ديونهم، وذلك بحبسه وحمله على الوفاء، فضرر الحبس دون ضرر إهدار القول.
وعلى الرغم من فقه الإمام في الحجر فإننا نراه يستثني من ذلك ثلاثة أصناف وهم:
(المفتي الماجن) الذي يعلّم الناس الحيل، و(الطبيب الجاهل) الذي يؤذي مرضاه ويؤدي إلى تهلكتهم، و(المكاري المفلس) الذي يأخذ الأموال من الناس ليكريهم دواب السفر، من دون أن يكون عنده دواب. وهذا الحجر يعني خطورة (المفتي الماجن) وضرره البالغ، وأثره السيء الذي لا يُنتج إلا إذكاء حالة متحذلقة متذاكية لا تعود على كل معنى خيّر إلا بالنقض والتحطيم والتقويض.
ولكن هذه الدعوة التي أطلقها الإمام للحجر على المفتي الماجن غيرةً على الفقه والدين والخُلق، والتي تشير إلى وجود فقهاء شرفاء أمناء في هذه الأمة، لم تقضِ على هذه الظاهرة، وكيف يحجر السلطان على المفتي الماجن وهو حليفه وعبده، وعبد كل ذي سلطة يمالئه ويحابيه ويداجيه! وتراثنا الفقهي يغص بقصص هؤلاء المفتين الماجنين، وأكتفي هنا بذكر قصة أوردها ابن عابدين في شرح منظومته رسم عقود المفتي هي أدنى ما يُقال في هذا المقام: "(حكى) الباجي أنّه وقعت له واقعة فأفتوا فيها بما يضره، فلما سألهم قالوا: ما علمنا أنّها لك. وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافق قصده. قال الباجي: وهذا لا خلاف بين المسلمين ممن يُعتد به في الإجماع أنّه لا يجوز".
فالمفتي في هذه الحالة كلاعب الكشتبان الذي يلعب بكشتباناته بمهارة فائقة، ثم يرفع الكشتبان الذي يختاره فإذا تحته الفتوى التي يختارها وفق ما يشاء، يدعمه في ذلك خفة في الضمير، وصفاقة في الوجه، وانعدام في التقوى، ورصيد هائل من أقوال متعددة ومذاهب مختلفة ورويات متناقضة.
واليوم لو كان الإمام أبو حنيفة حيّاً بيننا فأظن أنه كان سيخترع وصفاً آخر لصنف أكثر صفاقة ومهانة وخفة يدعوه (المفتي الداجن)، وهو المفتي الرسمي في ظل الأنظمة القمعية الديكتاتورية، وهو داجن من المداجنة والمداهنة، وداجن من الدجنة والظلام، وداجن من الاستئناس بمساكن المجرمين والظلاّم! داجن لا تسمع منه سوى البطبطة والنقنقة والمأمأة، وما شئت من أصوات الدواجن الأخرى.
داجنٌ يقول للمؤمنين وهو في قصر إفتائه: هّوَ أنا جالس في القصر ده عشاني؟! ده أنا جالس فيه عشانكو إنتو.
والخلاصة: المفتي الماجن والمفتي الداجن يستبيحان كلّ شيء، ويستبيحهما كلّ شيء.
محمد أمير ناشر النعم
Mohamad Amir NASHER ALNEAM
المصدر: https://www.syria.tv/cgu
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق