قدّم الرافعي لنا نفسه، على مدار إنتاجه
الأدبي، في معظم الأجناس الأدبية: الرافعي الشاعر، والرافعي الناثر (المسرحي،
والقاص، وكاتب المقالة والخاطرة)، والرافعي الناقد، وكان مدعوماً بحصيلة لغوية
نادرة بزّ بها أقرانه، واطلاع مستوعب للتراث الأدبي العربي قلما نازعه فيه أحد،
ومن أجل ذلك غدا من أكثر الأدباء حظاً وحظوة في الدراسات الأكاديمية (رسائل
الماجستير والدكتوراة) وفي الدراسات الحرة، ولكن معظم هذه الكتب والدراسات نظرت
إليه كما ينظر المريد الولِه إلى شيخه المغناج تارةً والوقور تارة أخرى، فلا يراه
إلا في السدة، ويذوب وجداً وافتتاناً، ثم يشتكي من أولئك البشر الذين يمرون أمام
هذا الكمال والجمال والجلال غافلين سادرين لا يرونه ولا يقتبسون منه! ومن هنا كرّر
جلُّ دارسيه شكواهم بأنّ الرافعي لم ينل حقّه من العناية، وأنّ جوانب كثيرة من
آثاره الشعرية والنثرية والنقدية ما زالت بحاجة إلى من يدرسها! وفعلاً نحن بحاجة
إلى من يدرسها مرة أخرى شرط أن يخلع عن عينيه نظارة الافتتان الإيديولوجي أو
الديني التي تعمي وتصم، وعندها سنجد، فوق ما يراه محبوه ومريدوه، (بهلوان) الأدب
و(أبو عنتر) البلاغة.
الرسول الأدبي:
اعتقد الرافعي أنّه صاحب وحي أدبي سماوي، ورسالة بلاغية
معجزة، وأعلن ذلك تلميحاً وتصريحاً، وانتشى طرباً بترويج كلام أناس يصفون كتبه
بالإعجاز، وبأنها وحي أو كالوحي! جمع مقالاته وأطلق عليها عنوان (وحي القلم) وهي
تسميةٌ بالغة الدلالة على ما يجيش في فكره وخاطره! وانتحل، بحسب محمود العقاد،
تقريظاً على لسان الباشا سعد زغلول يقول فيه: "بيانٌ كأنّه تنزيلٌ من
التنزيل، أو قبسٌ من نور الذكر الحكيم"، وزيّنت له نرجسيتُه كتابَه (أوراق
الورد)، فوصفه بالكتاب المعجز، وتهوّس بالكلمات التالية في محاولة منه
لنشرها وتعميمها: "إن الإجماع انعقد على إعجاز هذا الكتاب"
(رسائل الرافعي، ص 173)، ونقل عن أستاذ سوري لم يسمه: "وهذا
الأستاذ يقول في كل مجالسه لو مضى 500 سنة على إعجاز القرآن [يقصد كتابه المسمى
إعجاز القرآن]، فنضجت فيها العلوم والبلاغات لعجز كل أدباء العربية عن وضع كتاب
مثله، ولو ظاهرهم الجن والإنس" (رسائل الرافعي، ص 179)، ويقول في موطن آخر مسوّقاً نفسه: "قد
أخبرني الشيخ عبد الله حبيب الذي كان يتعصب للعقاد أنه يرى الكتاب سماوياً فلا
يراه إلا في السماء ومن السماء" (رسائل الرافعي، ص 173)، ويؤكد مرة ثالثة ورابعة وخامسة على فكرة
أنّه صاحب كتاب معجز فيقول: "قد أجمع الذين قرأوا (أوراق الورد) على
رأي واحد لا يختلف وهو أنه كتاب العربية ومعجزتها في هذا الباب"
(رسائل الرافعي، ص 194)، بل ويصرح في إحدى رسائله باعتقاده أنه
رسول، وصاحب رسالة، "وقد أصبحتُ أعتقد أنّ الأحوال ستتيسر إن شاء الله،
وأستطيع الخروج من الحكومة، وإلا فكيف تؤدَّى الرسالة يا ترى؟ أرسولٌ
وموظف في الحكومة" (الرسائل، ص 192).
الإقذاع تحت راية
القرآن والبيان:
تجلى لنا الرافعي في معاركه الأدبية ناقداً
أدبياً، ولا سيما في كتابيه: (تحت راية القرآن) و(على السفود)، وكُتبت رسائلٌ وكتب
حول نقده، ولكنها كانت مأخوذة بهذا العملاق الجبّار، فجاءت أقرب إلى النسيب والتشبيب
من البحث الأكاديمي والكتابة العلمية، فلم تتناول انحطاطه إلى درك سحيق من العبث
بقوانين النقد الأدبي، ولم تحدثنا من أين يستمد الرافعي لغته النقدية؟ من علم
الاجتماع؟ أم من التحليل النفسي؟ أم من الإثنولوجيا؟ أم من علم اللغة؟ أم من بعض
أشكال الفلسفة؟ وسوف نراه إضافة إلى نقده طه حسين والعقاد مناقشاً ومفنّداً، في
سذاجة مناسبة لزمنه، ديكارت ونيتشه وبرغسون من دون زاد، ولا اطلاع، ولا إحاطة، ولا
معرفة باللغة التي كتب بها هؤلاء القوم كتبهم، وفي صورة من صور الجرأة
الكاريكاتورية، (نحتاج أن نخصص مقالاً كاملاً لتبيان ملامح هذه الصورة)، ولذلك
فإننا لا نستطيع أن نأخذ هذه المناقشات على محمل الجد.
يمتاز النقد الأدبي الرافعي بخصائص قلما نجدها
في ناقد آخر، فهو يعمد إلى المبالغة في تشويه الفكرة، ثم ينقض عليها انقضاض
المتمكن الواثق، فيحطمها على أهون سبب، ونمسك عن بسط الأمثلة لأنها تستوجب مقالاً
خاصاً ربما نكتبه في المستقبل، وهو يتجاوز تحطيم الفكرة إلى إحداث أضرار مادية في
الخصم، فلا يكتفي بنقد أفكاره، بل يطالب بطرده من وظيفته، وبقطع رزقه ومعاشه، ويلح
في تكرار ذلك لضمان تحقق الأذى، فلا يهدأ ولا يستكين إلى أن يرى الخصم معزولاً
مطروداً، وهو لا يكتفي بنقد المؤلف وبشتمه، ولكن ينتقل لشتم جمهوره وقرّاءه ومعجبيه
أيضاً، ولا يجيز لهم أن يعجبوا بهذا الكاتب وإلا كانوا من أشد المغفلين المسخوطين،
ولأنه يخلط الدين بالأدب نراه ينطلق من ادعاء حق العلو والإطلاق، ومن هذا الحق يطلق
أوصاف الإدانة الدينية التكفيرية، كالزنديق والجاحد والرافضي.
ثم نراه المغيظ المحنق الذي لا ترويه إلا
الألفاظ الفجة القاسية التي تجرد صاحبها من كل فضيلة! وللتدليل على ذلك نختار عينة
من هذه الأوصاف المنبثقة عن تلك الطاقة التدميرية التي لا تنضب:
"سيء الفهم، قاصر الذهن، غليظ الحس، بليد
التصور، منطفئ الخيال"، و"عباراته الركيكة، وذهنه الفج، وخياله المطموس،
وقلبه المطبوع عليه، وفلسفته الزائفة، وتقليده الأعور"، "مستوخمٌ بارد!
قلبه لوحٌ ممسوح! متسكّع متلكّع! من أهل الفسق والدعارة واللصوصية وأهل الظلم
والتعسف"، و"ساقط النفس، لئيم النفس، فاجرٌ عيّار متشطّر سفّاح".
ويجود الرافعي بالألقاب التهكمية فيصف أستاذ الجامعة طه حسين بـ (إبليس الجامعة)،
و(بومة الجامعة)، و(فيضة الجامعة)، و(عارورة الجامعة)، و(أبو جهل الجامعة).
وبكل لؤم يعيّر طه حسين بفقده كريمتيه،
ويشير إلى ذلك متشفّياً منتقماً في استهتار بأخلاق القرآن العظيمة الرحيمة الشفيفة،
ومستهين براية القرآن التي يقود معركته تحتها، فطه حسين "رجلٌ لا يدرك أنّه
منهزم أمام الحس، فهو يهدم ويخرب بقانون طبيعي فيه"، وفي هذا التجاوز
الأخلاقي لا يتورع الرافعي عن توسل القرآن الكريم نفسه زيادة في الامتهان، فيخاطب
طه مذكراً إياه بعاهته، وأنه ليس حكمه عنده إلا ما قاله الله تعالى: {من أبصر
فلنفسه ومن عمي فعليها}، وفي تهريج محزن يقول: "سألت الله أن يخرج لي آية
تشير إلى طه حسين وغروره وحماقته وتخاليطه، ثم فتحته على هذه النية فو الله لقد
خرج قوله تعالى: {إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم فهم
يعمهون}". وهكذا يشرك القرآن نفسه في جريمة تعيير طه بعماه.
ولا يكتفي الرافعي بذلكم بل تنزّ منه
العنصرية التي تشرّبها من العهود السالفة وحفظها عن ظهر قلب بلا روية ولا محاكمة
فيقول: "فكل عامي وسوقي ونبطي وزنجي يستطيع أن يتناول الميزان الدقيق فيميله
ويجعله أكذب الموازين وأخبثها"، والخبيث ههنا هو هذا القول عينه النابع من
نظرة عنصرية تخص هذه الأجناس بالذكر في إمكانية الخبث وتحقق الشر.
ونرى في نقد الرافعي الأدبي ذوقاً عابثاً
يطيب له في أسلوب التشبيه الإفراط في استخدام الحيوانات، فطه حسين ديك رومي، ثم هو
دجاجة، ثم غراب غُرس في جناحه ريشة طاووس فظن نفسه طاووساً، ثم هو هرٌّ، فحمارٌ،
فذيل حمار، فضبٌّ، ثم ينحدر إلى تشبيهه بالحشرات فيجعله ذبابة، ثم نملة اسمها
طاحين، (مشتق من طه حسين)، ثم ينحدر به أكثر إلى عالم النبات فيغدو "كالثمرة
الكالحة المرة"، وأخيراً يهوي به من عالم الحيوان والنبات إلى عالم الجماد
فيجعله "حجراً، لكنّه هشٌ لين المكسر"!
أما سلسلة مقالات الرافعي (على السفود) التي طبعها سنة 1930 متهجّماً فيها على العقاد تهجماً شنيعاً لا نبالة فيه، (أعلن في
آخر حياته ندمه على كتابة هذا الإقذاع بحسب ما نقل عنه أحمد حسن الزيات)، فيختار لغلاف
الكتاب صورةً تقشعر منها الأبدان تتلاءم مع العنوان وتشرحه!! نجد فيها الرافعي
العملاق، وقد خوزق العقاد القزم بالسفود، أي: السيخ، من دبره وأخرجه من فمه، ثم
جلس يشويه على نار الحطب! والمستغرب هنا فعلاً أن تنشر هذه المقالات في مجلة (العصور) لصاحبها إسماعيل
مظهر، الكاتب المفكر الليبرالي التقدمي مترجم كتاب (أصل الأنواع) لتشارلز داروين،
وكتاب (نشوء الكون) لجورج جاموث، والذي كان لا يحب الرافعي، ولا يطيق ذكر اسمه،
ولا تجمعه به أدنى المشتركات، ولكن نكايةً بالعقاد، أشاد بالرافعي، واحتفى بنشر
سلسلة مقالاته الصبيانية المجحفة، ليقول لنا إن النكاية أيضاً تعمي وتصم حتى أشد
الناس تقدمية وليبرالية.
يقوم النقد الأدبي عند الرافعي، في جملة ما
يقوم عليه، على أساس التبخيس والتطفيف، فالعقاد، الذي كان من أهم أدباء مصر
وأشهرهم وأقواهم، لا قيمة له على الإطلاق، لأنه "كورقة البنك المزوّرة"،
وهو "سفيه أحمق"، ويرى الرافعي فيه "وقاحةَ وجهٍ، وبذاءة لسان،
وموت ضمير، وحمقاً أكبر من الحمق الإنساني، ولؤم نفس بقدر مجموع ذلك كله"، وهو
"سفيهٌ مكرّم بحكم السياسة". "كلامه لئيم، وأسلوبه لئيم، وسرقاته
لئيمة"، ومن "لؤم شعره وركاكة بيانه المتهدم يمشي في الشعر على رجلين من
خشب"، و"لو بصق ابن الرومي لغرق العقاد في بصقته"، وهو "معتوه
ولص"، وهو "كاتب عبقري لا يفهم، ولا يكتب إلا خطأ من ضعف"، ويسميه
الرافعي مستهزئً بـ (الجبار)، و(جبار الذهن)، و(جبارنا المضحك)، ثم يغدق عليه
الأوصاف:
ــ رجل دعوى وتدجيل وغرور، وابن الحقد
ميراثاً، وأديبٌ (فالصو) مثل عقّاد الجرائد، وبليد سقيم الفهم. و"مجدّد إيه،
وهباب إيه".
وستعاود الرافعي نزعته العابثة، بعد أن بلغ
من العمر خمسين عاماً، فتشتغل التشبيهات الحيوانية مرة أخرى، فالعقاد "بقةٌ
إنسانية، رُزقت هذا الطول هُزؤً بها ونحن لا ندري"، وهو "ذئب إذا واثب
إنساناً ضلل حواسه"، والعقاد "كبهيمة الساقية أو دابة الطاحون، يسير
(معمّى) مغطّى العينين"، وهو "كالظربان (على وزن القَطِران)، وهو دويبة
فوق جرو الكلب، منتنة الريح، كثيرة الفساء، فهو سلاحها"، وهو أيضاً كـ
"الحبارى وهي تحارب الصقر إذا قرب منها بوقاحة من الباطن، وكل ما يكتب العقاد
فهذه سبيله فيه". أي: فساء وخراء.
وفي نزعة أشد عبثاً سيحلو للرافعي أن يمسك
بتلابيب وصف يصف به العقاد، فيكرره ويعيده ويصقله وهو وصفه بـ (المراحيضي)، فالعقاد
"مراحيضي"، وهو "الشاعر المراحيضي"، و"يا مولانا صاحب
(مرحاضه) املأ مرحاضك الفكري"، و"للمراحيضي رأيٌ فلسفي في تعريف
الجمال"!!
وأمام هذه النصوص والنقولات نتساءل بصدق: هل
نحن بحاجة إلى النقد الأدبي أم إلى التحليل النفسي؟ وما أراه هنا أنّنا بحاجة إلى
استلهام طريقتين من طرق التعاطي النقدي معه: طريقة جورج لوكاش التي تبحث عن
العلاقة بين بنية العمل الأدبي وذاتية المؤلف، وطريقة جان لاكان التي تمزج النقد الأدبي
بالتحليل النفسي، وهي خير طريقة لتقييم هذا الأدب العنيف، وهذه الشخصية الفريدة
المفتقرة إلى الدماثة، والمتوغّلة في أعماق محيّرة من تشويه الخصم وهجائه والتهكم
به، والتي تشعّ منها طاقة تدميرية جيّاشة امتدّت ظلمتها إلى لحظتنا الراهنة حيث
غدت آلياتها النقدية البائسة وألفاظها وتشبيهاتها صوى ومعالم لأجيال قارئيه
ومعجبيه، جنباً إلى جنب مع عباراته الرائعة، وتشبيهاته الرائقة، ولمحاته الأخّاذة.
محمد أمير ناشر النعم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق