رواية (المسافر): خائفون ومخيفون

Roman: Der Reisende: Erschrocken und beängstigend

 انهمرت، خلال أربعة أسابيع فقط، زخّات الكلمات متتابعةً مندفعة، وانهلَّ وابل الجمل متتاليةً محمومة، لتشكّل فيضاناً جارفاً يكتسح السطور ويلتهم الأوراق، ولتظهر، في فترة زمنية قياسية قلّما حقّقها روائيّ،ٌ بحيرة أدبية متلاطمة سمّاها أولريش ألكسندر بوشفيتز رواية (المسافر).

كتبها بالألمانية سنة 1938، وعمره 23 سنة، ونشرها بعد عام بالإنكليزية في إنكلترا، بعنوان: (الرجل الذي ركب القطارات)، لكنّها كانت بالقياس إلى الألمان رسالةً في زجاجة رُميت في البحر، ووصلت إلى الشاطئ بعد ثمانين سنة. اكتشفها المحرر الأدبي بيتر غراف فنقّحها وطبعها بلغتها الأم طبعتها الأولى سنة 2018. بناءً على نصٍّ مطبوع محفوظ في أرشيف (المنفى) في المكتبة الوطنية في فرانكفورت.

واحتلت مباشرة المراتب الأولى في المشهد الأدبي الألماني! واستعرضتها جميع الصحف الكبرى، ونُظّمت قراءات لها في العديد من المدن، وترجمت مباشرةً إلى عشرين لغة حيّة، ليس من بينها مع الأسف، اللغة العربية.
احتفى بها النقاد الألمان لأنها أول عمل أدبي انعكست فيه ظلال ما عُرف في التاريخ الألماني المعاصر تهكماً بـ (ليلة الكريستال/ Kristallnacht)، أو (مذبحة تشرين الثاني/ Novemberpogrome)، وهي الليلة التي وصل فيها لهتلر ورفاقه، وهم على مائدة احتفال، نبأ اغتيال الدبلوماسي الألماني إرنست فوم راث في باريس على يد مراهق يهودي انتقاماً لمعاناة أهله في ألمانيا، في 9/ تشرين الثاني/ 1938، فأعطوا الإيعاز للنازيين في الشروع بالمذبحة الفظيعة التي ضربت اليهود في الليلة نفسها، في عموم أرجاء البلاد، لكنهم ادعوا في الأيام التالية بأنّ هذه المذبحة المروّعة كانت حركة عفوية تلقائية شعبية عبّرت عن الغضب الشعبي ضد اليهود.
دمّرت هذه الحركة العفوية سبعة آلاف وخمسمئة متجر، وأَحرقت ألفاً وأربعمئة معبد، أي: نصف المعابد اليهودية في ألمانيا، وكانت فرق الإطفاء مترصدة لمنع انتقال الحرائق للمنازل غير اليهودية، وحطّمت وعفَّشت الشركات والمدارس ودور الأيتام اليهودية، وألقت القبض على ثلاثين ألف يهودي، قُتل منهم الكثير، وسيق الآخرون كالماشية إلى الحدود البولندية.
وُلد أولريش ألكسندر بوشفيتز عام 1915، لأب يهودي توفي في السنة نفسها جندياً في الحرب العالمية الأولى، ولأم بروتستانتية فرَّ معها من ألمانيا عام  1935، وتنقلا عبر السويد والنرويج وفرنسا ولوكسمبورغ وبلجيكا، ووصلا إلى إنكلترا بعيد اندلاع الحرب عام 1939، فوضعتهما الحكومة في أحد المخيمات، ثم رحّلت الابن إلى أستراليا بوصفه
عميلاً ألمانياً محتملاً، وظل فيها إلى خريف 1942، حيث قرّر العودة إلى إنكلترا من خلال التطوع بالجيش البريطاني، فركب السفينة (أبوسو) مع 391 راكباً، وفي ليلة مقمرة في المحيط الأطلسي شمال غرب جزر الأزور نسفت الغواصة الألمانية U 575 السفينة، فغرق معظم ركابها إضافة إلى طاقمها، ولم ينج سوى ثلاثين شخصاً فقط، وهكذا توفي بوشفيتز وعمره سبعة وعشرون عاماً.
رسم بوشفيتز في روايته (المسافر) مخططاً نفسياً للمجتمع الألماني بأسره صبيحة (ليلة الكريستال)، من خلال الحديث عن تاجر يهودي ثري يدعى أوتو سيلبرمان، قاتل في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب الإمبراطورية، وشعر بأنّه ألماني تماماً، فلم تهمّه جذوره اليهودية، بل كان أقرب إلى معاداة السامية، فسوّغ الإجراءات النازية المتعسفة ضد اليهود، وعدّها مجرد تدابير طارئة، لكنّ (ليلة الكريستال) دمّرت وجوده بالكامل، فانهار عالمه العلماني بين عشية وضحاها، وتجلت الحقيقة أمام عينيه في عريها الخالص:
"ما أنا؟ ما أنا؟ كلمة قذرة على قدمين".
بدأت رحلته عندما قرع حشد هائج بابه، فأدرك أنّ ألمانيا غدت غريبة عنه، وأنّه غدا شخصياً مهدداً في وجوده المادي، ومباشرة ترك شركته وراءه، وسلّم معظم أسهمه لشريكه الآري (آيان) وكيل النيابة السابق الذي ظنه صديقاً، فإذا به يأكل حقه، ويخدعه بلا خجل.
يسعى سيلبرمان مع زوجته غير اليهودية في الذهاب إلى باريس، فابنهما الجامعي يدرس هناك، لكنه يخفق في تأمين تأشيرة دخول لوالديه، فتترك الزوجة زوجها، وترحل مع شقيقها. وفي تلك الأثناء تشدّد جميع الحكومات البرجوازية في أوروبا سياسات الهجرة، وتغلق جميع المنافذ في وجه اللاجئين السياسيين واليهود الذين يحاولون الهرب من ألمانيا، فيصبحون كقطيع يلف ويدور مهتاجاً مترقباً في الحظيرة.
زمن الرواية قصير يغطي بضعة أيام فقط هي الأيام التي يحمل سيلبرمان فيها حقيبته بعد أن يجمع فيها ما تبقى من ثروته، ويبدأ رحلته: من برلين إلى هامبورغ، ثم إلى برلين، ثم إلى دورتموند، ثم إلى آخن، ويصل إلى بلجيكا، وهنالك يلتقطه حرس الحدود البلجيكي ويرسلونه إلى ألمانيا مرة أخرى، فينوس مترنحاً في القطارات ما بين ديرسدن وبرلين. قطارات يمر بعضها بجانب بعض. تسمع أصواتاً قريبة تارة، وبعيدة أخرى. أصواتاً صاخبة. أصواتاً مضحكة. تطحن العجلات نفس الأغنية فوق القضبان. نفس السيمفونية الحادة والقاسية التي تصرخ فيها الجوقة بلا توقف: (اليهود إلى الخارج). سير لا نهاية له، لأنه سفر لا غاية له. مجرد انتقال من قطار إلى قطار مع مراعاة أن يكون البقاء على الأرض هنيهة، فبمجرد النزول إليها يغدو مهدداً بالاعتقال، لقد اعتُقل أقاربه، واختفى أصحابه، وبات من الحصافة أن يغدو غير مرئي فيختفي بين القطارات، ويسافر عبر البلاد إلى أن يجد منفذاً ما أو منقذاً ما! إنّه الآن "مثل رجل يهرب إلى السينما، والأفلام تتلألأ خلفه، لكنه يجلس في مقعده غير متحرك، والمخاوف تنتظر خارج الباب الأمامي".
يتداخل في الرواية عالمان: عالم الأجواء القديمة التي عاشها سيلبرمان في المكتب والمقاهي. العالم الرغيد الوادع، والعالم الجديد الذي تتوقف فيه حياته اليومية تماماً، وتظهر الغرائز منفلتة من عقالها فجأة، ويبدو الجميع قد فقدوا ملكة التمييز، وتملكتهم مصالحهم الآنية فلم يعودوا قادرين على رعاية غيرها، العالم الجديد الذي تشعر البرجوازية الصغيرة فيه أنها في حالة انكفاء وفقدان قيمة فتحتاج إلى كبش فداء، ويصبح لديها فجأة الفرصة للتمرد ضد المثقفين، وضد أولئك الذين يعدونهم أفضل وأرقى.
نتعرف في الرواية على مجموعة متنوعة من الشخصيات: حرفي يهودي يحاول، مثل سيلبرمان، الفرار، لكنه لا يستطيع تمويل هروبه، وامرأة شابة لا تستطيع الزواج، لأنها وخطيبها ليس لديهما ما يكفي من المال، وهو لا يمكنه الاقتراض، لأنه خارج للتو من معسكر الاعتقال، ونصادف العديد من النازيين المقنّعين، والانتهازيين ممن يستغلون محنة المضطهدين للتربّح والإثراء! إنه مجتمع مصغّر من الخائفين والمخيفين، يسوده الاستغلال والجشع، ويظلّه الخوف من الإدانة ومعسكر الاعتقال في كل مكان. الجميع يتوقع حرباً جديدة. والجو متوتر وبارد بلا رحمة.
يصبح وعي سيلبرمان الطبقي والسياسي أكثر وضوحاً، من خلال المحادثات مع زملائه المسافرين، لكن كلما امتدت به سكة القطار وازداد فهماً ازداد عجزاً أيضاً! وتمتاز هذه الأحاديث بلغة متقنة مميزة فيها شيء من السينمائية، وتذكرنا بأحاديث القطار في الروايات الخالدة كرواية (الأبله) لديستوفيسكي، ورواية (عائلة جودت بيك وأولاده) لأورهان باموق.
في (المسافر) تتكثّف تجربة الاغتراب إلى الحالة القصوى، وفي الأيام القليلة التي يقضيها بطل الرواية على الطريق يفقد كل ما جعل حياته مجدية: منزله ــ زوجته ــ شريكه ــ أمواله، لكن الرواية لا تقع في مطب اليهودي الصالح والآري السيء، بل تمتلئ بشخصيات متناقضة، بما فيها سيلبرمان نفسه، ذلك المتغطرس الساخط، الأناني والسخي، الصعب والذلول.
تُسرق حقيبة (المسافر)! ويفقد جميع مدخراته، ويضطر إلى الذهاب إلى المخفر للتبليغ عنها، وعندما يذهب يُعتقل، وتنتهي الرواية في المشهد الأخير في الزنزانة، وقد قبع مع نزيل آخر ينتظر التعقيم القسري.
يستلقي على سريره ولا ندري إن كان يصطنع الجنون ليحتمي به فيتمتم: "في الساعة السابعة يذهب قطار إلى آخن. ثماني ساعات إلى هامبورغ. عشر دقائق إلى درسدن". أما جملته الأخيرة التي ينطقها فذات دلالة مهولة: "هناك الكثير من القطارات ... الكثير من القطارات". وكأنّها نبوءة مستقبلية قريبة يطلقها بوشفيتز على لسان بطله، فالأفق يغص بالقطارات، قطارات الترحيل الملعونة التي ستسوق البشر إلى الهلاك، ونبوءة مستقبلية بعيدة سنعايشها اليوم مع تدفّق اللاجئين المقهورين المنتهكين المنهكين إلى أوروبا، ممن سيركبون سفن الموت، والكثير الكثير من القطارات في رحلات محفوفة بالخطر والمجهول والضياع واليأس والترقّب والأمل والبشرى.
وفي نهاية هذا العرض يمكننا الآن أن نضيف سبباً إضافياً لاحتفتء النقاد الألمان بهذه الرواية واهتمامهم بها، وتسليط الأضواء الكاشفة عليها، فقد راعهم أن يروا تبلد الإحساس المقيت لدى طائفة من أبناء جلدتهم ممن تضيق بهم أخلاقهم وإنسانيتهم وضمائرهم، فيتخذون من نكران مآسي الآخرين وسيلة كسب سياسي رخيص يعيد إلى الأذهان خطاب الغرائز البائس المجرم الذي ينمي الخوف لدى الإنسان فيجعله رذيلة تعمي البصر وتطمس البصيرة.
لقد أتت هذه الرواية، في الوقت المناسب في خضم أزمة اللاجئين العالمية وانتعاش القوى اليمينية المتطرفة لتوضح: مدى هشاشة اليقين المزعوم! وكيف يمكن لبيئة عادية أن تغدو معادية! ولتقول: ماذا يعني أن تكون هارباً ومنفياً؟ ولتصوّر: كيف تكون البدايات الجديدة والآمال المخفقة. الآمال التي أخفقت قبل ثمانين عاماً، ولكن لا يجوز أن تخفق اليوم!

محمد أمير ناشر النعم

المصدر: https://www.syria.tv/content/رواية-المسافر-خائفون-ومخيفون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق