أجناس أدبية مؤيدة. أجناس أدبية معارضة



من الأسئلة التي تتوارد على ذهني ولا أجد لها جواباً أو تناولاً في دراسات (نظرية الأدب) وفنونه وأنواعه: لماذا نجد أجناساً أدبية تقف من السلطة السياسية، حتى لو كانت ديكتاتورية، موقفاً مسوِّقاً أو متملّقاً، مساعداً أو مسانداً، ونجد أجناساً أدبية أخرى تتمنّع وتعتصم، وتُعرض وتعارض؟
لماذا يهوى جنس أدبي، في جملة ما يهواه، الزيف البرّاق، ويرتضي لنفسه الارتزاق؟ ولماذا يعافه جنس أدبي آخر ويترفّع عنه ويأباه؟
هل للأجناس الأدبية ماهيات واستعدادات شبيهة بماهيات البشر واستعداداتهم؟

يخبرنا عبد الفتاح كيليطو أنّ (الرأي السائد هو أنّ القصيدة تعبّر عن الشاعر. هذا الرأي يُغفل عمل النوع: القصيدة تعبّر قبل كل شيء عن النوع الذي تنتمي إليه). وإذا كان الشعر يخبر عن نوعه، فالرواية أيضاً تخبر عن نوعها. عن نوع آخر تنتمي إليه، بإمكانات وقابليات وحدود تخالف إمكانات الشعر وقابلياته وحدوده.
ونعود للتساؤل:
لماذا نرى (الشعر) الذي تحدّر من ربات الشعر التسع شعلةً مقدّسة! لماذا نراه مطواعاً في يد الشاعر، فيكون محراب فكر سامٍ، ومبدأ شريف، وحب طاهر، ثم يشعِّثه فجأة فيصيّره أفكوهةً سخيفة وأضحوكة ممجوجة؟ من أين جاءته هذه المرونة لتُظله تارةً راية (لله كنوزٌ تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء)، ولتُقلّه تارة أخرى فخاخ الكُدية؟ ويصبح طوراً نفثةً من نفثات روح القدس، ويمسي طوراً آخر فحيحاً من فحيح خسيس النفس!
لماذا نرى في هذا النوع الأدبي (الشعر) ما لا نراه في النوع الآخر، (الرواية) علماً أنها تملك اللغة والمفردات والإسهاب؟ هل لأنّها، بالتعبير القرآني، (تقدّر في السرد) ما لا يقدّره الشعر فيه.
ليست هذه الأسئلة حكراً على الشعر العربي، بل هي تعمّ وتطمّ الشعر كله.
يتشكّى، في إحدى قصائده، الشاعر الفرنسي بوالو وهو من شعراء القرن السابع عشر:
"عند النبلاء وعند الأمراء
أكثر القصائد تفاهةً
تجد أحرَّ المؤيدين
ويجد التافه دائماً من هو أتفه منه ليمجّده".
لماذا يوجد بحر بل بحورٌ من (الشعر) التافه يمجّد السياسي التافه؟ ولماذا لا نكاد نعثر على ساقية أو بركة من (رواية) تافهة تمجّد طاغية؟
هل لأن (الرواية) نثر، والشعر (نظم)؟ والنثر تشتت وتبعثر وحرية وانعتاق وترسّل، والنظم ترابط وتماسك وعبودية للقالب وانخراط في نظام؟
هل بين (النظم) و(النظام) سبب خفيّ وميتافيزيقيا مستترة يجب البحث فيهما وعنهما؟
في النقد الأدبي القديم يُفضَّل المنظوم على المنثور، فإذا كان الكلام درراً فكونها منظومة أفضل من كونها مبعثرة. لكننا في المقابل لا نعدم رأياً يقول: إن المنظوم هو المثقوب المفتضّ المفترع! والمنثور أفضل من المنظوم. على اعتبار أنّ البكر أفضل من الثيّب! هل في هذا الرأي استشراف لجنس أدبي منتظر؟
يمكن أن نحكم على نصف الشعر العربي بأنه مؤيد! يؤيِّد رغباً ورهباً، وطمعاً وجشعاً، فأشعرُ الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب، والنابغة إذا رهب. ونصف الشعر سياسي (رغباً ورهباً)، ونصفه ذاتي (ركوباً وطرباً). ولكن هل يمكن أن نعطي حكماً مماثلاً بالقياس إلى الرواية؟
في تراثنا العربي موقف نقدي قد ينال الإعجاب: لا يمكننا أن نحاكم الشعر إلى الدين. قال ذلك القاضي الجرجاني، فالشاعر لا يُحاسب إذا خالف قوله الدين "إذ الدين بمعزل عن الشعر"، ولكن الشعر عندما يمدح الطاغية متهوِّكاً، ويرتقي به إلى درجة الإله، فهو لا يخالف الدين فحسب، ولكن يخالف الموقف الأخلاقي والجمالي بتجميله قبح الظالم، وبطلائه قيح الفاسد.
لا يجد الشعر غضاضةً في جعل السلطان إلهاً! يقول ابن هانئ الذي أُطلق عليه (متنبي المغرب) مادحاً المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار.... فاحكم فأنت والواحد القهار.
أما متنبي المشرق أبو الطيب فنجد بين كل بيت وبيت من أشعاره مبالغة أفظع من أختها:
بمن أضرب الأمثال؟ أم من أقيسه....... إليكَ، وأهل الدهر دونك والدهر!
أو:
لو كان علمك بالإله مقسّماً...... في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ ........ توراة والفرقان والإنجيلا
أما الشعر على لسان أبي نواس فلا يتورع أن يقول في هارون الرشيد:
وأخفتَ أهل الشرك حتى إنه....... لتخافك النطف التي لم تخلقِ
هل الفرق بين (الشعر) و(الرواية) هو الفرق بين الأزمنة القديمة والأزمنة الحديثة؟ وبناءً على هذا نتساءل أيضاً: لماذا نرى لدى الشعر التقليدي قابلية لمدح الزعيم والسلطان والطاغية، أكثر من شعر التفعيلة والشعر الحر؟ ألأنهما ينتميان بالشكل إلى الأزمنة الحديثة؟
في الأزمنة القديمة تتداخل السلطات وتستعير من بعضها بعضاً الصفات. يرى بعضهم أن السلطان قد استعار من الإله بعض صفاته، ويرى بعض آخر العكس؟ أما الأزمنة الحديثة فتعلن صيحتها على لسان الثورة الفرنسية: "لا نريد رباً ولا سيداً"!
الشعر هو ابن العصور القديمة، والرواية بنت الأزمنة الحديثة.
يقرّر ميلان كونديرا "أنّ مؤسس الأزمنة الحديثة ليس ديكارت فحسب، بل كذلك سرفانتس"، يعني أنّ رواية (دون كيخوتة) توازي (مقالٌ في المنهج) أهميةً ومكانة، وبها يُفتتح عصر جديد، ويتبلور جنس أدبي مميّز لا يعرف طأطأة الرأس ولا الانحناء ولا الاستخذاء.
هل جربنا أن نقارن بين موقف الشعر وموقف الرواية من الديكتاتوريات العظمى في العصر الحديث؟
في ألمانيا النازية لا نعدم شعراء كالشعراء العرب الكلاسيكيين الذين أتينا على ذكر نماذج من شعرهم: هيربرت مِنزل، هانز جوست، هيربرت بوهم، غيرهارت شومان.
نقرأ لمنزل قصيدة بعنوان (أمام صورة القائد):
(عندما أشكُّ أنظر إلى صورتك.
عيناك تطالعني بما لا يشعر به سوانا
أقضي بعض الوقت في التحدث إليك
كما لو كنت قريباً، وتعرفني).
إلخ إلخ.
أما هانز جوست فيشبّه ألمانيا بطبل يمسكه هتلر بكلتا يديه ويدقّه، ويسير في دربه، ويخطو بقوة نحو الشمس، ويتبعه الذين اختارهم بصمت بعد أن أقسموا له بيمين العَلَم. إلخ. إلخ أيضاً.
أما في عوالم الرواية فسنقع في أدنى المشهد على الروايات المنضوية تحت مسمّى (الواقعية الاشتراكية)، والتي استظلت بظلّ الأنظمة الشمولية اليسارية، لكنها لن تسفَّ إسفاف الشعر، ولن تتناول الزعيم والقائد والديكتاتور كما تناوله، بل ستتجنّبه وتحيد عنه، وستنتصر للمعاني الإنسانية التي يبشّر بها هذا النظام أو ذاك، بل وسنراها تعاند الأنظمة حين توافقت بما يشبه الإجماع على ألا تُختتم بمشاهد الجنة الأرضية الموعودة، بل بنهايات تحكي استمرارية الكفاح والنضال، لأنّ المؤمَّل لم يحن بعد، ومع ذلك فقد قال النقد الأدبي في هذه الروايات كلمته: "إنّها تقع خارج تاريخ الرواية".
أما في أقصى المشهد فسنقع على النوع الذي بات يُعرف بـ (روايات الديكتاتور) المختصة بفضحه بما اقترف من إجرام، وبهتكه وشقّه بما اجترح من آثام، وأغلب هذه الروايات كُتبت، كما هو معروف ومشهور، بأقلام أمريكية لاتينية.
إنّ نوع الرواية لا يحتمل غير ذلك، لأنّ روحها هي روح التعقيد، فـ "كل رواية تقول للقارئ: إنّ الأشياء أكثر تعقيداً مما تظن". وفي رحلة إبراز هذا التعقيد وكشفه وإماطة اللثام عنه، بالسرد والحبكة والأحداث والشخوص، تُسبر المواقف، وتُحلّل الشخصيات، وتفكّك الهياكل، ونحن نعلم أنّ كلّ سبر وتحليل وتفكيك هو بحدّ ذاته فضح وهتك للسلطات وعوالمها، وللديكتاتور وأسراره.
الأدب أجناس، والناس أجناس، وهذا زمن (الرواية) فاشتدي زيَم.

محمد أمير ناشر النعم
المصدر: https://www.syria.tv/content/أجناس-أدبية-مؤيدة-أجناس-أدبية-معارضة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق