سليم الأول وحافظ الأسد ومغامرات الحاكم والسلطة



إذا كان حافظ الأسد، كما أشيع، من قارئي التاريخ ومن متابعي أحداثه ووقائعه، وقادته وزعمائه، فإنه يجدر السؤال عن الشخصية التاريخية التي كانت في فكره، يستهدي بتجربتها ويترسم خطواتها؟
ولئن لم يكن في وسعنا تقديم جواب قطعي فإنّ في وسعنا التسديد والمقاربة وصولاً إلى ما نعتقده جواباً يدعمه منطق العقل ومصداقية الواقع. وهنا نقدّم السلطان العثماني سليم الأول الذي أنهى عرفاً قديماً، كان يُعد ديناً ثابتاً لا يجوز تحديه، ودستوراً راسخاً لا يصح تخطيه، وأسس عرفاً جديد، ووضعية مغايرة ما كان يخطر على بال الناس تجاوزها منذ فجر الإسلام حتى زمن السلطان نفسه! وهو نفس ما قام به حافظ الأسد حذو القذة بالقذة، وإن اختلفت مساحته الجغرافية والزمانية. فما الذي قام به السلطان سليم الأول؟ وما العبرة التي استخلصها حافظ الأسد منه؟

والجواب:
منذ دولة الخلافة الراشدة وحتى منتصف فترة الخلافة العباسية كانت السلطة والحاكمية في يد الخليفة، فهو صاحب الشرعية وصاحب السلطة والقوة، يرجع إليه قيادة الجيش والتصرف في خزينة الدولة وإدارة الممالك المفتوحة، ويعيّن الولاة ويسميهم عمّالاً! حتى إذا ما بدأت الخلافة تضعف وتتضعضع، تحوّل العمال إلى أمراء، فاستقلّوا بإماراتهم، مع محافظتهم على الولاء للخلافة، مشكّلين سلالات حاكمة تستمر كل واحدة منها إلى أن تأتي سلالة أخرى تزاحمها وتنهي وجودها، وتجرّأ بعضهم على التمدّد وغزو معقل الخليفة نفسه في بغداد، كما حدث مع معز الدولة البويهي، إذ اجتاح جيشه الجرار بغداد فاحتلها سنة  334هـ في أيام خلافة المستكفي العباسي، فخضع هو ومن تلاه من الخلفاء لسلطة البويهيين حتى سنة  447هـ، وكان باستطاعة البويهيين القضاء على الخلافة غير أنّهم آثروا الإبقاء عليها يستمدون من عهد الخليفة شرعية نفوذهم، وفي المقابل يقدمون له الحماية والمنعة، وحتى عندما احتدم الخلاف بين السلطان بهاء الدولة سنة 381 هـ وبين الخليفة الطائع، وانتهى بخطفه وسجنه لم يقم السلطان، رغم اقتداره، بإنهاء الخلافة، وإنما طلب من الخليفة أن يتنازل عنها لابنه القادر، وسجّل عقد التنازل أعيان بغداد وأشرافها وقضاتها، وسوف يتقلص نفوذ البويهيين ويضمحل على يد السلاجقة الذين سيتمكنون من بسط سيطرتهم على المناطق الحيوية من الخلافة العباسية غير أنّهم لن يبادروا إلى إلغائها، علماً أنّ فقيهاً من أهم فقهاء العالم الإسلامي هو الإمام أبو المعالي الجويني شيخ الإمام الغزالي فتح لهم ثغرة، فأعلن في كتابه (غياث الأمم) الذي أهداه لغياث الدولة وزير السلطان السلجوقي ألب أرسلان أن شرط قرشية الخلافة مسألة مظنونة غير قطعية، وبذلك يكون قد مهّد السبيل لقيام خلافة سلجوقية على أنقاض الخلافة العباسية، لكن السلاجقة لم يقوموا بهذه الخطوة أيضاً.
على أنّ فرصة إلغاء الخلافة العباسية كانت أقرب ما تكون على يد سلطان أسهم في إلغاء الخلافة الفاطمية، وهو السلطان صلاح الدين، ولكنه لم يجرؤ على التفكير في ذلك علماً أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله كان متوجساً من مجرد هذا الاحتمال، لذا لم يمنحه تقليداً بولاية الموصل رغم أنّه رسّمه أميراً وسلطاناً على آمد وديار بكر والشام ومصر، لأنّ الموصل قريبة جداً من حدود الخلافة مما أثار مخاوفه باحتمال انقضاض السلطان على مربض الخلافة وإنهائها، وادعائها لنفسه وأسرته، ولو قام صلاح الدين باتخاذ هذه الخطوة لشهدنا خلافة كردية تمتد إلى العصر الحديث، وربما تنهار في النهاية، كما انهارت الخلافة العثمانية، ولكن كان سينبثق عنها دولة كردية حديثة يؤسسها أتاكورد، وهكذا بدلاً من أن نكون أمام المشكلة الكردية اليوم سنكون إزاء المشكلة التركية.
ويبدو أنّ أسطورة بقاء الدولة العباسية حتى زمن ظهور الإمام المهدي ونزول عيسى من السماء، المقررة والمثبتة في الكتب، كانت قد ضربت بجرانها في الضمائر والأفئدة والأفكار، فمنعت صلاح الدين وسواه من السلاطين من الاقتراب منها وإنهائها.
لقد عاش العالم الإسلامي حتى منتصف القرن العاشر الهجري ضمن تقليد راسخ ينظم العلاقة بين (السلطة الزمنية) و(الحاكمية الروحية)، وتجلت تبعية السلطة الزمنية للحاكمية الروحية في ظاهرة ترسيم السلاطين عند تتويجهم، فلا يحصلون بحقٍّ على الشرعية إلا بعد تنصيبهم وتوليتهم من طرف الهيئة الروحية التي يمثلها الخليفة، وبدونها يظل السلطان أو الملك مهما بلغ من الشأو مجرد قوة هوجاء لا شرعية لها ولا اعتراف. (ستكون دراسة ممتعة أن نقارن مراسم ترسيم الملوك والأمراء من قبل الخليفة في العالم الإسلامي والبابا في العالم المسيحي في العصور الوسطى). لقد ظلّ هذا التقليد على مدار قرابة الألف عام ثابتاً راسخاً محترماً، وقد عبّر عنه الإمام النووي بقوله: "الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة" إلى أن خرقه السلطان سليم الأول تاسع سلاطين بني عثمان يوم دخل فاتحاً مصر سنة 923 هـ، فأجبر الخليفة العباسي محمد الثالث المتوكل على الله على التنازل عن حقّه في الخلافة الإسلامية، وأخذ منه الإرث النبوي المادي: (بيرق النبي، وعصاه، وعباءته)، ونقل الخلافة إلى البيت التركي في القسطنطينية.

لقد شاهد حافظ الأسد انصياع السلاطين لمبدأٍ ظنوه جميعاً لا يتزحزح فإذا بمتقحّم جريء يزحزحه وينسفه، من دون أن يختل نظام العالم، فبادر كذلك إلى اقتحام ذلك العرف الذي كان بمرتبة الدستور أو ما فوق الدستور في تاريخ سوريا الحديث، وهو أن يكون رئيس البلاد مسلماً سنياً، فقام بالانقلاب على رفاقه البعثيين وأودعهم السجون والمعتقلات ونصب نفسه رئيساً للجمهورية مخترقاً العرف السائد ومتجاوزاً إياه، وسيتخطى جميع الشخصيات التي كانت مؤهلة لرئاسة سوريا بحكم السلطة التي حازتها، ولم يمنعها من ذلك سوى أنها لم تكن من الفئة السنية! فعندما قام انقلاب البعث الأول سنة 1963 لم يدر في خلد أي من أفراد اللجنة العسكرية من أبناء الأقليات (محمد عمران، عبد الكريم الجندي، صلاح جديد....) أن يتقدم للرئاسة، فقد كان هذا بحكم المستحيل في نفوسهم وأوهامهم، ولذلك قدّموا أول مرة لؤي الأتاسي (1926 ــ 2003) وغدا رئيساً للجمهورية، من 9 آذار 1963 حتى 27 تموز 1963، ثم أتوا بأمين الحافظ (1921 ــ 2009) فحكم من 27 تموز 1963 حتى 23 شباط 1966 يوم الانقلاب البعثي الثاني، وأتى قائد الانقلاب صلاح الجديد بنور الدين الأتاسي (1929 ــ 1992) ليكون رئيساً للجمهورية من 25 شباط1966  حتى 16 تشرين الثاني 1970 يوم الانقلاب البعثي الثالث الذي قاده حافظ الأسد، فأقام أحمد حسن الخطيب (1933ــ 1982) رئيساً مؤقتاً من 18 تشرين الثاني 1970، وحتى 22 شباط 1971، ثم استلم حافظ الأسد رئاسة الجمهورية من 22 شباط 1971، وحتى وفاته في 10 حزيران 2000.
وكأني بصلاح جديد وهو قابع في سجنه ظلّ طوال فترة سجنه يعض يديه ندماً: كيف لم يخطر في باله أن يتقدم لرئاسة الجمهورية؟ ولماذا لم يسمِّ انقلاب 23 شباط 1966 بالحركة التصحيحية المجيدة؟ فقد استمرت حكومته من سنة 1966 حتى 1970، وكان بمقدوره أن يتقدم لرئاسة الجمهورية قبل أن يقوي حافظ الأسد أجنحته ويضفر أحابيل قوته، ولكن لم يدر في خلده للحظة واحدة أنه يمكن لعلوي أن يغدو رئيساً للجمهورية، وأن رئاسته تجوز وتسلك.
أما حافظ الأسد فبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أن كثيراً من التدبيرات والأعراف والحواجز والموانع ما هي إلا محض خيالات وأوهام، وأن في عوالم السياسة مساحات نظن أنها مستحيلة على الارتياد فلا نفكّر فيها ولا نقترب منها علماً أنها قد تكون أقرب إلينا من شراك نعلنا.

محمد أمير ناشر النعم
المصدر: https://www.syria.tv/content/سليم-الأول-وحافظ-الأسد-ومغامرات-الحاكم-والسلطة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق