بين بحر وشاطئ تتلاطم الحقائق، وترتسم
المصائر، وتستبين ماهيات النفوس واستعدادات الأرواح! في ثَبَج البحر تنجو أرواح
وتعلو وتعرج، وعلى الشاطئ تغرق نفوس أو تميل وتعرج، في القاموس لؤلؤ مكنون في الصَّدف،
وعلى الشاطئ لؤلؤ يبهرنا شعاعه إذا انكشف.
على الشواطئ غزاة، يغزون العقول والقلوب
والنفوس، ينصبون الآلات والرماح، ويُفَوِّقون السهام، ويتم الرمي والإنزال، وليس
إنزال النورماندي عنّا ببعيد، ويختلط الحابل بالنابل، ويتبادلون الأدوار، فكم من
حابل يصير نابلاً، وكم من نابل يغدو حابلاً.
وفي الإسكندرية على شاطئ (ستانلي باي) تزاحمت
الإشارات والعبارات، وتشابكت الحقائق والمجازات، واستؤنفت المعارك التي تراخت
أزمَّتها، وحُلّت عُقد وثيقتها: معركة القديم والحديث، معركة الطربوش والبرنيطة،
معركة العمود والتفعيلة، معركة الفصل بين السياسة والدين، معركة الشعر الجاهلي،
معارك تناجز الحداثة، وتناطحها، وترهقها، ولكن هيهات للحداثة أن تستلم!
قامت بلدية الإسكندرية سنة 1932
بتنظيم الأكواخ حول شاطئ خليج ستانلي، وتحولت الأكواخ إلى كبائن
إسمنتية فيما بعد، وغدا الشاطئ محجّاً للمصطافين والمصطافات، فخيضت حوله معركة
أدبية لم يرصدها راصد، ولم يدوّن وقائعها مدوّن. إنه الشاطئ الذي يحدثنا عنه أحمد
حسن الزيات سنة 1933 بأنّه "ستانلي باي الذي تكتب عنه الآن الجرائد
اليومية كل يوم. والذي تكتب عنه المجلات الأسبوعية كل أسبوع"، ويقف
على مشارفه "النيابة، والبوليس، والصحافة، ورجال المطافئ، ورجال الدين. كل
أولئك يعلنون الحرب عواناً على شاطئ ستانلي باي"!
كلّا! ليسوا جميعاً يشنون الحرب عليه! بل هم منقسمون إلى فريقين: مستحسن
ومستهجن.
...
إلى شاطئ (ستانلي باي) يرنو جميع الخصوم: العقاد
والرافعي وسيد قطب ومحمود محمد شاكر وأحمد حسن الزيات وزكي مبارك وأحمد الصاوي
محمد، ومحمود غنيم ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد قدري لطفي، وعلي الطنطاوي، وشيخ
المشيخة العثمانية مصطفى صبري أفندي، وغيرهم وغيرهم.
يقف الطنطاوي في حومة الميدان يخطب مستنهضاً
الهمم في جموع مؤيديه، كأنه الفارس وليام والاس ممتطياً صهوة قلمه في نزاله ضد
الإنكليز:
"خبروني هل في الدنيا دين من الأديان أو خلق من الأخلاق يبيح
هذا الذي في ستانلي باي وسيدي بشر؟ فلماذا لا يُحارب المنكر؟ لماذا لا يقوم عليه
القائمون على الأخلاق؟ لماذا لا ينفر منه الأدباء؟ لماذا لا تحمل عليه جمعيات
الهداية والشبان والإخوان والأنصار، وخطباء الجمعة؟ هل تريدون كلمة الحق: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}؟ إنّكم منذ خالفتم فطرة
الله فقلتم المرأة مثل الرجل سواءً بسواء، ونسيتم أنها لا تتم المساواة حتى تسنّوا
قانوناً يجبر الزوج أن يحبل سنةً والمرأة سنة، ويُرضع شهراً وترضع شهراً، ويحلق
لحيته مرة وتركّب لها لحية مرة أخرى! ومنذ عكستم حكمة الخالق فجعلتم المرأة قوّامة
على الرجل، وجعلتم طاعتها تمدّناً ورقيّاً وإن كانت تطيع الشيطان، ومذ علمتموها ما
لا ينفعها من العلوم، وما لم تخلق له ولا يصلح لها فتحتم الطريق التي تذهب إلى
جهنم مارة بستانلي باي! وطارت شرارة منها فأضرمت هذه النار. إنها النار!
وإني نذير لكم! فهل تطفئوها قبل أن تستفحل"؟
وكذلك يعلنها الشيخ مصطفى صبري، في كتابه (قولي في المرأة) غضبةً
مضرية، ضدّ روّاد شاطئ ستانلي، ويتعجّب "من كتّاب اتخذوا الدعاية للسفور
مبدءاً لهم، ثم تراهم الفينة بعد الفينة يشكون تهافت النساء على أنواع التبذّل
والاستهتار في المصايف وعلى شواطئ البحر، واندفاع الفتيان والفتيات وراء الشهوة
الجامحة، لا سيما في (استانلي باي)"، ويورد في الكتاب نفسه ثلاث قصائد لشعراء
معاصرين لم يسمّهم، مطلع القصيدة الأولى:
ترى العينُ فوق الرمل سرباً من المهى/ مبعثرةً في الرمل بعثرة الزهر
ففي البحر سوآت وفي البر مثلها/ فيا ضيعة الأخلاق في البر والبحر.
وقصيدة أخرى مطلعها:
هل رأيت الجموع محتشدات/ فوق شطِّ الخضمِّ! أو سابحات؟
وتنتهي القصيدة بهذه الخلاصة:
شط استانلي أنت عارٌ لمصر/ وعليها من أشنع الوصمات
وقصيدة ثالثة تقول أولى أبياتها:
ها قد ترحلنا فقل لي/ ماذا رأيت على ستانلي؟
وفي هذه القصيدة نلحظ تلك المفارقة التي طالما طالعتنا لدى بعض الكتّاب
والأدباء المحافظين الذين يهاجمون أمراً لكنهم يسترسلون في سرد أوصافه ومحاسنه،
وكأنهم يلتذون بذكرها، فلا تدري هل هم ينفّرون الناس منها أم يشوّقونهم إليها:
وإذا الخصور الضامرات/ تَجلُّ عن وصف وقولِ
وإذا الجفون الناعسات/ تكاد تقتلُ أي قتلِ
يا قلبُ! هذه كعبة الد/ ـدنيا فقف يوماً وصلِّ
للعاريات كأنّهنـ/ ـن عرائس البحر الأجلِّ (1)
وفي ضفة النزال الأخرى نقرأ قصيدة (عارية ستانلي) للشاعر محمود حسن
إسماعيل:
جوريّة صوّرها ساحر/ من روعة السحر وسلطانه
لو شامها قسٌّ بمحرابه/ يُذوِّب الروح لقربانه.
ونقرأ قصيدة (في خليج استانلي) لمحمد قدري لطفي:
أيّام روما أم ملاعب قيصر/ تلك الملاهي الباديات لناظري
أبدين حسناً ساحراً، وبدا على/ أجسامهن الستر ليس بساترِ
أما محمود غنيم فينظم قصيدة (في ستانلي):
كل شيء في الصيف يشكو الخمودا/ وأرى البحر وحده في نشاطِ
قذف البحر دره المنضودا/ أرأيت الجمان فوق الشاطي؟
وبخبث متظارف يتساءل غنيم كيف يحرّمون كشف صدور الأوانس، ويبيحون كشف
صدور الرجال بمنظرها الفجّ المليء بالشعر؟!
صاحِ قل لي: ما بال تلك الصدور/ كشفها لا يحلّ للأحداق؟
ليتهم حرّموا ذوات الشعور/ فهي عندي مثل القذى في المآقي
ويضرب عباس محمود العقاد بسهمه أيضاً، ويكتب قصيدة وصف أو بالأحرى
غزل بـ (خليج ستانلي، أو حمام البحر في الإسكندرية)، ومطلعها:
يا ويحَ قلبك من هدف/ صال المسدّد أو صدف
وتنشأ معركة جانبية حول هذه القصيدة يشنها الرافعي بمعزل عن الشاطئ
نفسه، فهو ههنا لا يسترعي انتباهه رواد الشاطئ ولا رائداته بمقدار ما يهمه تحطيم شعر
العقاد والنيل منه فيشغب عليه ويتهكم على التشبيهات الواردة فيها، وحول هذه
القصيدة بالذات يكتب سيد قطب سنة 1938 الجزء الثاني من سلسلة
مقالاته المنشورة في مجلة (الرسالة) بعنوان: (بين العقاد والرافعي) مدافعاً عن
العقاد، ومهاجماً الرافعي، ويأتيه الرد بعد أسبوعين، منشوراً في المجلة نفسها، من
محمود محمد شاكر في مقال (بين الرافعي والعقاد).
وبين ضفتي النزال، في منطقة وسطى، يقف أحمد حسن الزيّات، وينشر في
مجلته (الرسالة) مقالاً بعنوان: (ستانلي باي)، وينسبه لـ "كاتب كبير شاء ألا
يتعرف إلى جمهوره"، وأكاد أجزم أنّ هذا الكاتب هو الزيات نفسه:
"إن ما
يثير الرجل من المرأة ليس هو ظهرها المتجرّد، ولا هي سيقانها العارية، ولكنها نظرتها
الساجية التي ترخيها في وجه الرجل كأنما تدافعه عن نفسها وهي إنما تراوده بها عن
نفسه! وليست المرأة العارية هي التي تبعث الفتنة"، و"إني أحدثك صادقاً أن الرجل يكون في
البحر أو فوق الشاطئ تموج حوله السيقان، وتصطخب الأثداء، وتتلألأ الظهور، وتترقرق
النحور، فلا يشغله كل ذلك بمثل ما يشغله في الطريق وقوف امرأة تميل على جوربها
ترفعه، أو انشغال أخرى بذيل ثوبها ترخيه على ساقيها بعد إذ هفا به من فوقهما
النسيم".
ويقف في
منطقة قريبة من الزيات الصحفي أحمد الصاوي محمد كاتب عمود الأهرام الشهير (ما قلّ
ودل)، ويخصص سلسلة مقالات حول هذا الشاطئ، ونجد ذكراً لها وتفنيداً في كلام الشيخ
مصطفى صبري في كتابه (قولي في المرأة).
أما زكي مبارك فيجثم، قرب الشاطئ، كأنّه
سويسرا بين دول المحور والحلفاء لا يعنيه من كل ذلك سوى الدعوة إلى أدب جديد يدعوه
(أدب الشواطئ). أدب يختص به المصريون، ويُسجّل ابتكاراً من ابتكاراتهم.
كان شاطئ ستانلي في تلك اللحظة بؤرة عملية
فرز شاقة بين القيم والأخلاق والمبادئ والمهج والشوق والتوق والاشتهاء والامتطاء والحياء
والسيقان والعفاف والأرداف والنهود والخصور والشعور والأسياف، والغِيد، والدر المنضود،
والجُمان، والكهرباء، والعذارى، والدُمى، وسرب الحمام، والآرام، و"اللؤلؤ
بغير محار"، و"ظباء لم تدرِ معنى النفار"، و"لباس واشٍ نمّام"!
ولقد
مدّ الله في عمر الشيخ علي الطنطاوي إلى سنة 1999،
وشهد البحر شواطئ ومنتجعات جديدة تفوق (ستانلي باي) في الغردقة وشرم الشيخ وعين
السخنة ووو، شواطئ لم تنشب على رمالها معارك، ولا قصائد،
ولا مقالات، ولا مقالات مضادة، فبعد سنوات قليلة امتصت الأعين هول الصدمة، واستسلم
المعترضون إلى حالة من التطبيع مع الشاطئ، وانتقل قسم منهم إلى المطالبة بتخصيص
شواطئ مناسبة للعفيفات المستورات، ولسان حالهم يقول: لكم شواطئكم ولنا شواطئنا.
أما الحداثة ذات الكيد العظيم فجلست مطمئنة
وهي تردد: "وليُغلبن مغالب الغلاّب".
هوامش:
(1) ولعل خير من يمثّل ذلك مصطفى صادق الرافعي الذي اخترع نعتاً
للمرأة المتحررة هو (الربيطة)، لكنه أسهب في كتاباته بذكر أوصافها الحسّية ذكراً
فيه من التفنّن والتلاعب والتزويق والابتكار والإثارة ما لا نجده عند أشد دعاة
التحرر من الكتّاب والأدباء.
محمد أمير ناشر النعم
المصدر:https://www.syria.tv/c47
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق