تخلّف الفقه الإسلامي في تناول مسألة الانتحار

هل يمكننا أن نخالف الفقهاء في حكم فقهي يتفقون عليه ويوردونه وينصّون في كتبهم وموسوعاتهم على أنه لا خلاف فيه، فنأتي اليوم ونخالفهم ونقول: لقد جانبوا الصواب في حكمهم؟

نعم! يمكننا ذلك، وهذا ما سنبينه من خلال تناول مسألة محددة هي (الانتحار).

يتحرك الفقهاء في مسألة الانتحار من خلال خريطة البحث الفقهي التالية:

يعرفونه لغةً، وحدّاً اصطلاحياً، ثم يستفرغون وسعهم في تناول كل ما يمت إلى الانتحار بصلة:

بم يتحقق الانتحار؟ يستقصون صوره بالفعل والإيجاب، وصوره بالسلب والترك، ويتناولونه بحسب إرادة المنتحر: الانتحار عمداً، والانتحار خطأً، وينصّون على حكمه التكليفي، ثم يتتبعون الحالات التي تشبه الانتحار: الانتقال من سبب موتٍ لآخر (له صور عديدة واحتمالات كثيرة)، هجوم الواحد على صفوف العدو على الرغم من تيقنه من موته، الانتحار خوفاً من إفشاء الأسرار للعدو. أمرُ الشخص غيره بقتله: صوره وحالاته، وأمر الشخص غيره بقتل نفسه. أي قتل الآمر: وصوره وحالاته، والإكراه على الانتحار (اقتلني وإلا قتلتك)، أو (اقتل نفسك وإلا قتلتك)، واشتراك المنتحر مع غيره، كمن جرح نفسه ثم جرحه غيره فمات من الجراحة، وتتبع احتمالات الاشتراك: جرح نفسه خطأً، وجرحه غيره عمداً، أو جرح نفسه عمداً، وجرحه غيره عمداً، أو جرح نفسه خطأً وجرحه غيره خطأً، أو جرح نفسه عمداً وجرحه غيره خطأً.

وينصّون كذلك على الآثار المترتبة على الانتحار، ويتحدثون عن إيمان المنتحر وكفره، وعن الآثار المترتبة على كون الانتحار خطأً أو عمداً، والعقوبة والكفارة التي يتوجب أداؤها سواءً من مال المنتحر أم من عاقلته، وأخيراً يتحدثون عن غسل المنتحر وتكفينه والصلاة عليه، وهل تقبل توبته قبيل موته أم لا، والخلاف حول ذلك.

إننا أمام كمٍّ هائلٍ زاخرٍ من المسائل والتفصيلات التي أتينا على ذكر عناوينها فقط، والتي تخضع لاختلاف أنظار الفقهاء واختلاف تقديرهم، ولذلك فسوف نكون عند كل مسألة من هذه المسائل، في الأعم الأغلب، أمام أكثر من رأي، وأمام أكثر من استدلال تحرّكه عقول فقهية وقانونية جبّارة تريد أن تضبط أفعال الإنسان وتعطيها ما يلائمها توصيفاً وتكليفاً، باستلهام المذهب الفقهي المحدّد أو النص الإسلامي ومقاصده وروحه.

كان وما زال هذا الزخم في ذكر مسائل الانتحار ومحاولات استقرائها وحصر صورها وتأطيرها فقهياً يعطي شعوراً بالامتلاء والكفاية والثقة بالمعالجة الفقهية التي لا تتصور وجود ما يدانيها لدى الأديان الأخرى أو الأمم الأخرى، وربما كان هذا الكلام صحيحاً في العصور الوسطى عندما كان البحث في (الانتحار) محجوزاً لصالح الفلاسفة واللاهوتيين والفقهاء والقانونيين، وكانت معالجته في الديانتين اليهودية والمسيحية قريبة الشبه من المعالجة الإسلامية مع تشدّدهما أكثر، حيث إن هاتين الديانتين منعتا احترام المنتحر واعتباره والصلاة عليه ودفنه في مقابرهما، ويروى ههنا عن عمر بن عبد العزيز أنه لم يرَ الصلاة على من قتل نفسه، وربما كان في هذا الرأي متأثراً بالمسيحية، ولكني لا أستطيع الجزم به، وهو الرأي الذي لم يوافقه عليه عموم فقهاء الإسلام، ما خلا صاحب الإمام أبي حنيفة الإمام أبا يوسف القاضي.

كان عالم الديانات الإبراهيمية متقارباً في فهمه وتقديره لمسألة الانتحار، وإن كانت المسيحية قطعت شوطاً أشد هولاً في التعاطي مع هذه المسألة منذ أيام القديس أوغسطين إلى ما بعد لوثر وكالفن اللذين لم يخرجا عن رؤية أوغسطين على الرغم من نزوعهما الإصلاحي، وتمردهما على كثير من الأحكام والتعاليم، فحتى ذلك الحين ظلت الكنيسة تعاقب من أخفق في محاولة الانتحار بالموت.

أما عالم الديانات الشرقية في الهند وما جاورها فكان للانتحار شأن آخر وتقدير مختلف تمام الاختلاف، فقد كان يمارس الانتحار بوصفه عبادة، وكان المسلمون يدركون ذلك، وقد فسّر الإمام الرازي قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} في ذلك السياق فقال: "إنّما يمكن أن يُذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند".

وفي عصر التنوير بدأت تظهر رؤى مختلفة في مسألة الانتحار فلسفياً وقانونياً، فكان الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (١٧١١ ــ ١٧٧٦) من أوّل من كتب مخالفاً رأي الكنيسة (عن الانتحار وعن خلود الروح/ Essays on Suicide and the Immortality of the Soul)، ولكنه لم يجرؤ على نشره، فنُشر بعيد وفاته عام ١٧٧٧.

وأوصى القانوني الإيطالي سيزار بيكاريا (١٧٣٨ ــ ١٧٩٤) وهو رائد إصلاح القانون الجزائي عالمياً، بعدم معاقبة المنتحر، ومن ذلك التاريخ بدأ رفع العقوبات القانونية ضد الانتحار تدريجياً، وكان آخرها رفعاً عام ١٩٦٦ في إسرائيل التي عدّت الانتحار محرّماً وجريمة جنائية ومنعت دفنه في مقابر اليهود، ولكنها اليوم تعدّ الانتحار مرضاً عقلياً، ولا تمنع أداء طقوس الجنازة اليهودية على المنتحر.

وسوف ننتظر الطبيب النفسي الفرنسي جان إيتيان إسكيرول (١٧٧٢ ــ ١٨٤٠) ليفسّر الانتحار طبياً، وسوف يدشّن كسر احتكار الفلسفة واللاهوت والقانون لهذه القضية، وسيبدأ تناول جديد لها على ضوء علم النفس والأعصاب والمعارف الطبية التي كانت تتطور تطوراً مذهلاً في تلك الآونة.

بعد ذلك سيظهر عام ١٨٩٧ كتاب (الانتحار) (١) لرجل يُعد أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث وهو الفرنسي إيميل دوركهايم (١٨٥٨ ــ ١٩١٧)، وسيطرح سؤالين أساسيين: ممَ يتكوّن العنصر النفسي للانتحار؟ ومم يتكون العنصر الاجتماعي للانتحار؟ أو ما صلاته مع الظواهر الاجتماعية الأخرى، وبأي الوسائل يمكن أن تؤثر عليه؟

قسّم دوركهايم الانتحار إلى الأنواع التالية، ووصف كل نوع وصفاً مسهباً: (الانتحار الهوسي الهذياني، الانتحار الملانخولي السوداوي الاكتئابي، الانتحار الوسواسي، الانتحار الاندفاعي الأوتوماتيكي)، وفي رحلة تمتد على مدار ٤٧٠ صفحة سنذهل من تطور أدوات البحث في القرن التاسع عشر، ولا سيما توفر ما بات يعرف بــ Moralstatistik أي: الإحصاء الأخلاقي، وهو فرع من فروع علم الإحصاء مرتبط بالأفعال العامة المتعلقة بإرادة الإنسان مثل: الزواج والولادة والانحراف والجريمة والانتحار، وسنذهل أكثر من كم الجداول البيانية التي سترافق هذا البحث والتي امتدت سنواتها عموماً من سنة ١٨٤١ وحتى كتابة الكتاب، ولا بدّ من الإشارة إلى بعض هذه الجداول لنعرف كيف كان يعالج دوركهايم موضوعه:

ــ جدول اطراد الانتحار في الدول الرئيسة في أوربا من سنة ١٨٤١ حتى سنة ١٨٧٢.

ــ جدول التغييرات المقارنة بين معدل الوفيات/ الانتحارات وبين معدل الوفيات العامة.

ــ جدول عدد المجانين من الرجال والنساء، وجدول حصة كل جنس من الانتحار. وجدول العلاقة بين الانتحار والجنون في مختلف البلدان الأوربية.

ــ جدول الميل إلى الجنون في مختلف العقائد الدينية (تبيّن له أن اليهود أكثر ميلاً، يليهم الكاثوليك والبروتستانت بنسب متقاربة).

ــ جدول الميل إلى الانتحار في مختلف العقائد الدينية في أوربا (تبيّن له أن البروتستانت هم في المرتبة الأولى، يليهم الكاثوليك، ويأتي اليهود في المرتبة الأخيرة). وهذه معضلة يصعب تفسيرها (أن يكون اليهود أكثر عرضة للجنون، وأقل عرضة للانتحار).

ــ جدول علاقة الانتحار بالعرق والوراثة.

ــ جدول الانتحار في المراحل العمرية المختلفة.

ــ جدول الانتحار والعوامل الكونية (التغيرات الحرارية والنزعة الجرمية).

ــ جدول توزّع الانتحارات على خارطة أوروبا بحسب مختلف درجات العرض.

ــ جدول التوزع الإقليمي للانتحار في إيطاليا.

ــ جدول الحصة النسبية لكل فصل من الكل السنوي للانتحارات في كل بلد.

ــ جدول مقارنة التغييرات الشهرية للانتحار حسب متوسط طول النهار في فرنسا.

وجداول أخرى عديدة حول لحظات الانتحار من اليوم (شروق، صباح، ظهيرة، عصر، ..إلخ) وحول أيام الأسبوع، وحول فصول السنة، وحول مقارنة التغييرات الفصلية للانتحار في بعض المدن الكبرى مع التغييرات في البلد بكامله، وحول الانتحار الغيري في الجيوش الأوروبية ونِسبها بين المتطوعين والنظاميين، وحول فئات الدوافع: (بؤس، حلم بالثروة، هموم عائلية، حب، غيرة، فسق، أمراض عقلية، ندم بعد ارتكاب جريمة، قرف من الحياة، آلام جسدية، أسباب غير معروفة) وحول الانتحارات والمهن: (التجارة، النقل، الصناعة، الزراعة، مهن حرة)، وحول الانتحارات والحالة المدنية: (أعزب، متزوج، أرمل)..... إلخ إلخ. كان هذا الكتاب وما رافقه من مؤلفات مشابهة مساعداً على ظهور علم مستقل يدعى Suicidology وهو علم يتناول الانتحار من خلال الطب النفسي وعلم النفس، وفي عام ١٩٤٨ أسس الطبيب النمساوي إروين رينجل في فيينا أول مركز في العالم لمنع الانتحار، وقد نشر هذا الطبيب حوالي ٦٠٠ مقالة، و٢٠ كتاباً حول الوقاية من الانتحار، والطب النفسي، وعلم الأعصاب، وعلم النفس الاجتماعي، وبعد ذلك بدأت تظهر الجمعيات الوطنية لمنع الانتحار في عموم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى سبيل المثال فإن الجمعية الألمانية لمنع الانتحار D G Sتنظّم مؤتمرين سنويين، وتنشر مجلة فصلية منذ عام ١٩٧٤، وتهدف بشكل أساسي لفهم ظواهر السلوك الانتحاري، وبحسب هذه الجمعيات فإن ٩٠ ٪ من حالات الانتحار في الغرب تصّنف في الأمراض العقلية، وأمراض الهوس الاكتئابي.

والآن هل راعى الفقه الإسلامي نتائج العلم الحديث في تناوله (الانتحار)، وهل راعى أن معظم أو بعض حالات الانتحار هي حالات مرضية ترفع عن المرء صفة التكليف؟

والجواب: لا. فما زال الفقهاء المعاصرون يتعاملون مع الانتحار بمنطق العصور الوسطى، ويأخذونه من الجانب القانوني فحسب، فيتناولون الانتحار ويرتبون عليه آثاره من دون أن يعرفوا ماهيته ومنشأه الحقيقي، ولذلك سوف نرى أهم مدونة فقهية إسلامية على الإطلاق في العصر الحديث وهي الموسوعة الفقهية الكويتية التي توافر على كتابتها أجلّ فقهاء العالم الإسلامي المعاصرين تقول: "لا خلاف في أنه إذا لم يمت من حاول الانتحار عوقب على محاولته الانتحار، لأنه أقدم على قتل النفس الذي يعتبر من الكبائر"، ونعم لقد جانب الفقهاء الصواب فيما اتفقوا عليه، وكلمة (معاقبة من حاول الانتحار) ههنا تلخص تخلّف الفقه في تعاطيه مع هذه المسألة، وكأن جميع هؤلاء الفقهاء الأعلام الذين كتبوا هذه الموسوعة لم يطلعوا على حرف واحد مما كتب عن الانتحار منذ القرن الثامن عشر وحتى اللحظة الراهنة، فهم ما زالوا يعالجون مسائله التي أشرنا إلى عناوينها في بداية المقال كما كانت الكنيسة تعالجها قبل أن تظهر الدراسات العلمية والطبية الحديثة والتي أشرنا إلى ١٪ منها في هذا المقال، ولذلك فهم لم يراعوا في تأصيلهم الفقهي أي معطىً من معطياتها، ولو راعوا ذلك فإن مجمل تكييفهم سيختلف، وسيتوجّه لتطبيق نظرية الظروف المخففة، وسيتحول المنتحر من مجرم إلى شخص يحتاج إلى الرعاية والعناية والاكتناف، من دون أن يعني ذلك قبولنا فعله ورضانا به، فنحن عندما نعالج مرضاً ونقر بوجوده لا يعني أننا نرضاه ونقبله، وقد صدق دوركهايم نفسه حين قال: "ما من شيء أشد تعارضاً مع الروح العامة للحضارة المحمدية من الانتحار".

 

هوامش:

(1) ترجم الكتاب إلى العربية حسن عودة، وطبع في وزارة الثقافة السورية عام ٢٠١١.

 


 

محمد أمير ناشر النعم


هناك تعليقان (2):

  1. مقال جميل و مفيد، سلمت يداك دكتور..
    و أخيرا هنالك من الباحثين المسلمين من يحاول أن يتفهم و يدرس حالة المنتحر، و لا ينطلق الى اصدرا أحكام قاسية عليه بسهولة و يكتفي بذلك.

    ردحذف
  2. سلمك الله. وأهلاً وسهلا بك.

    ردحذف