سرمد الكاشاني وتجديد عهد الصليب والمشنقة

Sarmad Kashani und die Erneuerung der Ära des Kreuzes und des Galgens


في مدخل جامع دلهي الكبير، معقل الإسلام في الهند، ضريح وليٍّ يحج إليه الزوار يومياً، ويقيمون له مهرجاناً سنوياً في 18 ربيع الأول ذكرى مقتله واستشهاده. إنه الشاعر الصوفي الشهير سرمد الكاشاني! تلك الشخصية التي يعرفها مئات الملايين في الهند وإيران، ولكن لم يسمع ولم يقرأ عنها العرب كلمة حتى لحظة كتابة هذا المقال ما خلا الأسطر القليلة المترجمة من الإنكليزية إلى العربية في كتاب آنماري شيمل (أبعاد صوفية في الإسلام)، والسطرين الواردين في مقالة لها بعنوان: (الحلاج شهيد العشق الإلهي) المنشورة في مجلة (فكر وفن) عدد 13 سنة 1969.


في الصورة المجملة لهذه الشخصية المشهورة المغمورة نحن أمام يهوديٍّ فارسيٍّ من أصل أرمني، دان بالإسلام، ثم سافر إلى الهند في تجارة له، وهنالك التقى بشاب هندوسيٍّ فعشقه وفُتن به، وتجرّد عن كلّ ما يملك، ونظم الغزل والرباعيات الشعرية التي تعلي من شأن الأديان تارة، وتهاجمها وتستهزئ برجالها تارة أخرى. سار عارياً بين البشر كزنديق، متحدياً كل إشارات المرور في الطريق، مما حتّم على الإمبراطور المغولي أورنكزيب عالمكير أن يريق دمه بفتوىً من قاضي القضاة، ولكن لعلة نجهلها غدا ذلك المقتولُ الوليَّ الرباني، وكُتب على باب ضريحه: الشهيد سرمد الكاشاني.

أما الصورة التفصيلية فنحن أمام مأساويٍّ مذهِل عاش حياته في صورة مطّردة من نهمٍ للمعرفة لا يرتوي، ومن تقلّبات في الفكر والسلوك منطوية على غنى الذات وصدمة الآخر، ومن توقٍ هائل للحرية يتحلل معها من وطأة كلّ تكبيل، ومن إيمان لا يعرف النفاق ولا الرياء! نحن إزاء مؤمن نضا عن نفسه البريق والمظهر، وفي نهاية المطاف بدمائه تطهّر.

ولد يهودياً في إيران قريباً من عام 1590، في زمن الشاه عباس الكبير (ت: 1618 من عائلةٍ نزحت في أغلب الظن من أرمينيا، ودرس التوراة والإنجيل، وكاد أن يغدو حاخاماً، ثم درس الفلسفة والدين الإسلامي على يد أهم فيلسوفين في إيران في تلك الآونة: صدر الدين الشيرازي (الملا صدرا)، وأبي القاسم فندرسكي، وبعد تلك الدراسة دان بالإسلام. نشأ في عائلة تحترف التجارة، فغدا تاجراً مثلهم، وقضى حوالي الأربعين سنة الأولى من حياته في خمول ذِكر، وركود شهرة، وفي سنة 1634 افتتح فصلاً جديداً في حياته عندما أبحر في تجارة له إلى الهند، فحطَّ رحاله في بلدة تاتا، وهي بلدة قديمة قرب كراتشي اليوم، وهنالك التقى بشاب هندوسي يُدعى أبهي تشاند يلقي شعر الغزل في مهرجان شعري، ففُتن به، وبدأ فصلٌ جديد من حياته مغاير تماماً لفصول حياته السابقة. كان سرمد لدى لقائه أبهي كالتبريزي حين شاهد جلال الدين الرومي، أو كالرومي حين شاهد التبريزي، فقد فجّر هذا اللقاء الصاعق ما انكتم في نفسه من شاعرية، فتدفّقَ شلال رباعيات، فيها من شميم حافظ الشيرازي، ونسيم عمر الخيّام، وحُفظ لنا منها حوالي ثلاثمئة وأربعين رباعية، وترجمتها إلى اللغة الإنكليزية الناشطة الحقوقية الهندية الشهيرة Syeda Saiyidain Hameed.

قرّر والد الشاب الهندوسي في البداية أن يبعد ابنه عن سرمد، فأرسله إلى خارج المدينة، فصُدم سرمد صدمة شديدة دفعته لأن يتجرد عن ممتلكاته، وعن كل شيء، حتى عن لباسه، وتلبّسته حالة من الأسى والضنى نمّت عن عمق معاناته، فتأثّر والد الشاب بذلك، وسمح لابنه بقبول صداقته ورعايته، ومنذ ذلك الحين لم يفترقا حتى اللحظة التي أُعدم فيها سرمد.

حامت الشكوك حول هذه العلاقة، ولفَّتها الريبة، ولكنّ المقطوع به أن أبهي غدا مريداً لدى سرمد، وتعلّم على يديه اللغتين العبرية والفارسية، وسوف يقدّم بعد ذلك هذا الشاب خدمة جليلة لكلا اللغتين حين سيترجم مقاطع من التوراة العبرية إلى اللغة الفارسية تحت إشراف أستاذه.

انتقل سرمد وأبهي إلى لاهور، فاستقرا فيها، ثم انتقلا إلى حيدر آباد، وهنالك ذاع صيته شاعراً وصوفياً، واجتذب العديد من المريدين من أبناء الطبقة العليا، ثم انتقل إلى دلهي، وفي طريقه مكث فترة في أغرا، وكانت شهرته قد سبقته، وستتكفل هذه الشهرة باستضافته في قصر الإمبراطور شاه جهان، وسيغدو ولي العهد دارا شكوه من تلامذته وأتباعه. في لقائه الأول سيسأله شاه جهان عن سبب عريه؟ وسيرد عليه سرمد: لمَ تعترض على عريي وأنت تقرُّ بكراماتي! وبتشجيع من سرمد حوّل ولي العهد دار البلاط المغولي إلى ساحة حوار بين الأديان، مقتفياً أثر جده الإمبراطور أكبر (1542 ــ 1605). ويصف رضا قليخان في كتابه (تذكرة رياض العارفين) (1) مشهد البلاط الذي ضمَّ علماء الأديان من مسلمين وهندوس ويهود ومسيحيين وقد جلسوا في مرتبة واحدة بدون تمييز.

كان دارا شكوه الابن الأكبر لشاه جهان وممتاز محل المدفونة اليوم في تاج محل، وكان من أتباع الطريقة القادرية، وعلى اطلاع ممتاز على كتابات أئمة الصوفية ولا سيما روزبهان البقلي، وألّف عدة كتب منها: سرّ الأسرار، وحق نامه، وسفينة الأولياء. كان دارا مثل جده صاحب رؤية استشرافية تتطلع إلى الحفاظ على الإمبراطورية الهندية المسلمة من خلال إقامة حالة سلام بين الديانتين الهندوسية دين أغلبية الشعب والإسلام دين الصفوة الحاكمة، ومن خلال البحث عن القواسم المشتركة بين هاتين الديانتين، وتُبيّن محاورته مع بابا لال داس أحد حكماء الهندوس اهتمامه بقضية اللغة الصوفية المشتركة بين الديانتين، وسوف نرى أنّ هذا الاهتمام قد امتدّ في الزمن حتى وصلنا عن طريق حضرة عنايت خان والفيلسوف الصوفي المسلم رينيه غينون. وكما أن سرمد وجّه تلميذه أبهي لترجمة التوارة إلى الفارسية، فقد قام دارا بأهم عمل في حياته وهو ترجمته للأوبانيشاد إلى الفارسية أيضاً معتقداً أنها (الكتاب المكنون) الوارد ذكره في سورة الواقعة، وبهذا يغدو أحد الكتب المقدسة التي ينبغي على المسلم أن يؤمن به كما يؤمن بالتوراة والزبور والإنجيل حين يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

إنها خطة دارا وأستاذه سرمد لإنقاذ الهند من التشظي الكامن المتربّص في نسيجها، ولم يكن من سبيل لرأب هذا التشظي الهائل من الأعراق والقوميات واللغات والطوائف إلا من خلال لغة واحدة وحيدة هي لغة الحب، ولغة التصوف العابرة لكل التلوينات مهما بدت متنافرة. لغة (الوحدة الأصلية) التي لا تفرّق بين المسلمين والهندوس تفريقاً قطعياً، بل ترى في الأديان المختلفة تظاهرات مختلفة وتجليات ملونة للحقيقة الواحدة الوحيدة، وفي هذا السياق سيتحدث سرمد عن نفسه وسيقول بأنه من أتباع الفرقان أي التصوف، وأنه مسيحي، وراهب بوذي، وحاخام يهودي، وكافر ومسلم!

لقد أدرك دارا وأستاذه سرمد الفكرة التي سيقررها تقريراً علمياً المستشرق الإنكليزي السير توماس آرنولد بعد قرابة القرنين في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) والتي تقول: إن أسلمة الهند لم تتحقق بالسيف بل بكلمات الصوفية، ولكن القدر لم يمهل ولي العهد ولا أستاذه، فعندما مرض شاه جهان انقسمت إمبراطوريته بين أولاده الأربعة: شاه شجاع ومراد حكما البنغال، وأورنكزيب حكم الدكن، وظل دارا في دلهي مع والده المريض، ولكن أورنكزيب خاض الحروب ضد إخوته، فهزمهم وقتل أولادهم، وبعد عدة معارك تمكن من أخيه دارا ولي العهد فأعدمه، وميّز نفسه عنه بتشدده في أخذ الجانب السني، والظهور بمظهر حامي الشرع، الذي يترفّع عن ترّهات أخيه وفسولته! فجمع هيئة من الفقهاء وطالبهم بتقنين الفقه، وكانت حصيلة ذلك ظهور (الفتاوى الهندية) في مجلداتها الستة المشهورة اليوم بين طلاب العلوم الشرعية، وقد نال أورنكزيب من جراء ذلك ذكرٌ حسن بين المتدينين المسلمين ما زال يُسمع صداه حتى هذه اللحظة، على الرغم من كون سياساته الهادفة إلى زيادة واردات الحكومة أدت إلى سقوط إمبراطورية المغول، حين ألغى تدبيرات التسامح مع الهندوس، وأعاد فرض الجزية على ممالكهم أولاً، ثم حين أتاح للإنكليز لأول مرة في التاريخ التغلغل في بلاد الهند طمعاً في الضرائب التي سيجنيها من بضائعهم التي يورّدونها، وكان طمعه هو البوابة التي تسلّلت منها رياح الإنكليز، والتي تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى إعصار دمّر الإمبراطورية وكسر شوكة المسلمين حتى هذه اللحظة.

كان سرمد رجل مبدأ، وأخا وفاء. ظلّ في صفّ المهزوم بعد قتله. وعنّف الملالي الحقراء التافهين الذين وقفوا مع أورنكزيب، واحتقرهم، وازدرى إمبراطورهم. ولعل ذلك اللقاء بينهما يلخّص الموقف. لقاء كأنّه أسطورة:

كان أورنكزيب يسير بين القصر والجامع، وكان سرمد جالساً في كامل عريه في الطريق بينهما، فأمره الإمبراطور أن يستر نفسه ببطانية كانت بجانبه! فطلب سرمد منه تمريرها إليه ليستر نفسه. ولما همّ الإمبراطور برفع البطانية صعقه مشهد مخيف. لقد رأى رؤوس أبناء إخوته ورفاقهم المقطوعة تتدفق منها الدماء الطازجة! فجفل أورنكزيب وأسقط البطانية!

قال له سرمد: قل لي! أأخفي جرائمك أم جسدي؟

كان سرمد نسراً. شاهيناً. صقراً. قلندراً. ملامتياً. حراً بكل ما تعنيه الحرية من كلمة. لذلك تجلى في رباعياته متضارباً غامضاً عاصفاً قاصفاً متلاطماً:

يعارض الملا والمتصوف وقلبه معلّق بالمساجد! هو حاخام تخلى عن اليهودية. هو هندوسي يعارض البراهمة، هو ليس من القطيع:

(لا أهتم بالسبحة، ولا بخيطها المقدّس.

هل أنا متدين؟ لا يهمني).

(في مسلخ العشق لا يذبحون إلا الصالحين

لا يذبحون ذوي الصفات الدنيئة والأخلاق الرزية

إن كنتَ عاشقاً صادقاً لا تهرب من الذبح

جيفة هو كل مَنْ لا يذبحونه).

وكما تخلّص أورنكزيب من حاشية أخيه دارا فقد رتّب لسرمد محاكمة أراقت دمه، (وقد نخصّص لاحقاً مقالاً مستقلاً لهذه المحاكمة ونقارن بينها وبين مثيلاتها من المحاكمات السابقة)، ومثل الأبطال العظماء في العصور القديمة تقبّل سرمد الموت بكل هدوء، وعندما دنا منه الجلاد ليحتزّ رأسه ترنّم قائلاً بأنّ مقصده تجديد الحبل والصليب، وإعطاؤهما بريقاً جديداً، لأنّ صوت منصور الحلاج كان قد ضعف في هذه الأيام.

 

 

الهوامش:

(1)    كتاب (تذكرة رياض العارفين) في اللغة الفارسية، ضم تراجم حوالي ١٦٥ من الشعراء الصوفيين في إيران، وهو أحد المصادر المهمة التي ذكرت الشاعر سرمد.


محمد أمير ناشر النعم

المصدر: https://www.syria.tv/cpk

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق