هل يمكن أن نضيف مصدراً جديداً للمصادر التبعية في الإسلام؟



يقسّم علماء أصول الفقه مصادر التشريع الإسلامي إلى قسمين: المصادر الأصلية، وهي: القرآن والسنة والإجماع والقياس (يستبدل علماء أصول الفقه الشيعة بالقياس العقل)، والمصادر التبعية: وهي الاستحسان والمصلحة المرسلة أو (الاستصلاح)، والعرف، والاستصحاب، وشرع مَنْ قَبْلنا، ومذهب الصحابي، وسد الذرائع، وهذه المصادر التبعية لم يتم التوافق عليها بين المذاهب الإسلامية، فمنهم من رفض بعضها، ومنهم من ضيّق العمل بأحدها، ومنهم من توسّع فيه، وكان الخلاف في مصدرية هذه المصادر أحد بواعث اختلاف الفقهاء في الأحكام الفقهية التي يستنبطونها، ويدرك ذلك كلّ من خالط كتب أصول الفقه أدنى مخالطة، وقد كتب الأستاذ الدكتور مصطفى ديب البغا رسالة دكتوراة بعنوان: (أثر الأدلة المختلف فيها ــ مصادر التشريع التبعية ــ في الفقه الإسلامي).

والمتتبّع للفروع المعتمدة على هذه المصادر يدرك أيضاً أن خلاف الأصوليين فيها هو خلاف لفظي في كثير من الأحيان، حيث يتّفقون على المعنى القابع وراء المصدر التبعي، ولكنهم يختلفون على اسمه ومصطلحه، وهذا يعني أن مصادر التشريع التبعية خاضعة للاجتهاد البشري، وما دامت كذلك فهي ليست قابلة للمناقشة أخذاً ورداً فقط، ولكن قابلة للزيادة كذلك!

وأحب أن أقف هنا عند المصدر التبعي المسمى (شرع من قبلنا)، والمراد بشرع من قبلنا هو ما ورد في القرآن والسنة من أحكام تلك الشرائع التي كان أهل الكتاب مكلَّفين بها، من غير إنكار لهذه الأحكام، ومن دون أن يدل دليل على أنها منسوخة في حقنا. وقد تساءل أصحاب المذاهب الفقهية الإسلامية: هل هذه الأحكام شرع لنا؟ وهل نحن ملزمون بالعمل بها؟ أم أنها نُقلت إلينا على سبيل الإخبار، وليس علينا امتثالها ولا القياس عليها؟ وقد اختار المالكية والحنفية والحنابلة، في قول لهم، أنها شرع لنا، وأنها حجة يلزمنا العمل بها، ورأى الشافعية أنها ليست شرعاً لنا، وأننا لسنا مطالبين بالامتثال لها.

استدل الفقهاء الآخذون بمصدر (شرع من قبلنا) بعدة أدلة منها قوله تعالى: {أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: ٩٠)، وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد ذكر الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وإلياس وإسماعيل وأليسع ويونس ولوط ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم! فكل هؤلاء هم قدوة لنبينا عليه الصلاة والسلام، بحسب ما ورد في الآية القرآنية الكريمة التي أمرته بالاقتداء بهداهم.

وقياساً على (شرع من قبلنا) هل يمكن أن ندعو اليوم إلى الاعتبار والاهتداء بـ (شرع مَنْ حولنا)؟ إذا كان هذا الشرع لا يصدم قطعياً من قطعياتنا، ولا محكماً من محكماتنا؟

وليس المقصود بـ (شرع مَنْ حولنا) هنا الأحكام التشريعية القانونية نفسها فقط، ولكن طرق الوصل إليها بما فيها من آليات ومراحل وهيئات ومجالس ودراسات وبحوث ومذكرات تصب جميعها في مصلحة التقنين وبلورة التشريع، فهنالك اليوم فيض من المسائل المعاصرة التي تحتاج لتشريع وتقنين، والتشريع لها يحتاج إلى: فهم المسألة نفسها، وفهم أبعادها وعلائقها، قبل الحكم عليها، ولا يكمل ذلك من دون ورؤية كيفية تعامل الأمم المتحضرة معها؟ وكيف يناقشونها على المستوى الاجتماعي والسياسي والحقوقي والقانوني.

وكيلا أبقى في الكلام النظري أضرب مثالاً واقعياً يجلّي على نحو أوضح مرادي ومبتغاي:

هل يمكن أن نأخذ عمل مجالس الأخلاقيات في العالم المتحضر اليوم على محمل الاعتبار الفقهي، فنستفيد منها في التنظير والتأطير والتكييف الفقهي لما يستجد ويطرأ.

هل يمكن أن نطلب من المجمع الفقهي الإسلامي في جدة، على سبيل المثال، أن يكون على دراية كاملة بعمل (مجلس الأخلاق الألماني) ليستفيد منه باعتباره تجلياً من تجليات (شرع مَنْ حولنا)؟

وربما وجب عليّ هنا أن أتحدث عن هذا المجلس ببضعة سطور تمتيناً للفكرة، وتوضيحاً للمثال، فهذا المجلس يرصد القضايا الأخلاقية والاجتماعية والعلمية والطبية والقانونية التي تنشأ عن البحوث والتطورات، خاصةً، في مجال (علوم الحياة)، وعواقبها المحتملة بالنسبة إلى الفرد والمجتمع، وعلوم الحياة هي العلوم التي تتعامل مع الكائنات الحية والتي تشارك فيها العلوم التالية: الطب، والطب الحيوي، والصيدلة، والكيمياء الحيوية، وعلم الأحياء الجزيئية، والفيزياء الحيوية، والمعلوماتية الحيوية، وعلم الأحياء البشري، والتكنولوجيا الزراعية، وعلم التغذية، والبحوث الغذائية، ويمكن أن تشير علوم الحياة أيضاً إلى التخصصات البيولوجية غير الأصلية كعلم النفس والذكاء الاصطناعي.

أُقرّ قانون (مجلس الأخلاق الألماني) في ١/ آب/ ٢٠٠٧، وعُقد الاجتماع التأسيسي في مبنى الرايخستاغ في برلين في ١١/ نيسان ٢٠٠٨، ويضم المجلس ستة وعشرين عضواً، يقترح البرلمان نصفهم، وتقترح الحكومة الفيدرالية نصفهم الآخر لمدة أربع سنوات، ومن أجل الاستقلال يحظر على العضو أن يكون عضواً في البرلمان أو الحكومة، ويراعى في اختيارهم أن يمثّلوا القضايا العلمية والطبية واللاهوتية (الدينية) والفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية.

يقوم المجلس بوظيفة مزدوجة، فهو منتدى حوار يعزّز المناقشة الاجتماعية، وهيئة استشارية يطوّر الآراء والتوصيات للعمل السياسي أو التشريعي، فضلاً عن ضمان التعاون مع هيئات الأخلاقيات الأخرى على المستوى الوطني أو الدولي، ويقدّم المجلس تقاريره مرة واحدة سنوياً إلى البوندستاغ الألماني والحكومة الفيدرالية حول أنشطة النقاش الاجتماعي وحالته، ويجتمع الأعضاء عادة مرة واحدة في الشهر، وتكون الاجتماعات عامة مفتوحة للجمهور، وبالإضافة إلى هذه الجلسات العامة، تجتمع مجموعات العمل التي يتم تشكيلها من الأعضاء أنفسهم على فترات غير منتظمة، ويتم دعم عمل المجلس من خلال مكتب في أكاديمية برلين براندنبورغ للعلوم، وتتحمل الحكومة الفيدرالية تكاليف المجلس، وفي عام 2018 خصص البوندستاغ الألماني مبلغ 1.895 مليون يورو ميزانية لعمله.

ومن أجل إعطاء صورة أوضح عن هذا المجلس راجعت أسماء الأعضاء الحاليين والجامعات والمراكز العلمية التي يعملون بها من أجل معرفة الخلفيات التي يأتون منها فوجدتها كالتالي: الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، وجامعة إبرهارد كارلس في توبنغن، وجامعة ميونخ التقنية، ومعهد فراونهوفر للعلاج الخلوي والمناعة، جامعة دوسلدورف هاينريش هاينه، وجامعة سيغن، وجامعة رانيلاند الإنجيلية في ليبّه، وجامعة سارلاند، والمركز الألماني لأبحاث السرطان، وجامعة روبرت كارل في هايدلبيرغ، وجامعة جورج أغسطس في غوتنغن، والجامعة الكاثوليكية للعمل الاجتماعي، وجامعة لودفيغ مكسماليان في ميونخ، وجامعة كولن، وجامعة أوغسبورغ، وجامعة هومبولت في برلين، والمجلس المركزي لليهود في ألمانيا، وجامعة هامبورغ، وجامعة بادربون، وتضم جامعة بادربون كلية اللاهوت الإسلامي، والدكتورة منى تتاري السيدة المسلمة الملتزمة والأستاذة في هذه الكلية هي الصوت المسلم في هذا المجلس، ويرأس المجلس اليوم في دورته الحالية الدكتورة ألينا بويكس، وهي أستاذة آداب مهنة الطب، ولها العديد من البحوث والدراسات منها: الإطار الأخلاقي للاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية، والآثار الأخلاقية للذكاء الاصطناعي في الطب النفسي وعلم والنفس والعلاج النفسي، آراء المرضى حول استخدام البيانات السريرية في الأبحاث بدون موافقة: هل هي قانونية أو مقبولة؟

يتناول مجلس الأخلاق الألماني عدداً كبيراً من القضايا التي يدور السجال حولها اليوم: البنوك البيولوجية، التهجين بين الحيوان والإنسان في البحث العلمي، الطب التناسلي، موضوعات الخرف وتقرير المصير، المعاملة الرشيدة للحيوانات، الفوائد والتكاليف في الرعاية الصحية، التشخيص الجيني ما قبل الولادة، الحرية والمسؤولية في العلوم، التبرع بالجنين وتبني الأجنة والمسؤولية الأبوية، بحوث الخلايا الجذعية إلخ إلخ. وكما رأينا فإن الأعضاء لا يناقشون هذه الموضوعات إلا وهم في خضمها وفي لجّتها، ولذلك فهم يمتلكون رصيداً معقولاً لتوصيفها ولفهم عقابيلها وآثارها وما يترتب عليها.

إنه مثال واحد من أمثلة عديدة زاخرة وافرة يمكن أن نطرحها من أجل أن ندعم فكرة توسيع مصدر (شرع من قبلنا) الذي استنفد طاقته أو كاد ليغدو اليوم (شرع مَنْ حولنا) بوصفه مصدراً مساعداً في الاستهداء والاسترشاد والاعتبار، وكما أنّ مراعاة هذه المصادر التبعية كان أحد أسباب ثراء الفقه الإسلامي، وتنوّع مدارسه وآليات الاستنباط فيه، فإن البحث والتطلع إلى زيادة هذه المصادر يسهم في إغنائه أكثر وفي تمتينه وإحكامه على نحو أقوى.

محمد أمير ناشر النعم

Mohamad Amir NASHER ALNEAM

المصدر: https://www.syria.tv/cFz

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق