يرى الفيلسوف والصوفي رينيه غينون، من خلال موقفه التقليدي الذي ينطلق منه، أنّ الإصلاح الديني البروتستانتي "لم يـقـد إلا إلى انحلال عقدي، فـلـقـد سـاهـمـت مـطـالـبـة البروتستانتية بعدم الاعتراف بأية حاكمية غير حاكمية الكتب المقدسة في
هدم هذه الحاكمية نفسها، لأنها تركت الباب مفتوحاً للمجادلات والاختلافات والانحرافات كافة"، فوصلت الأمور إلى النتيجة التي كان يجب أن تصل إليها : تلهف نحو التشتت غير محدود، وانقسام ناشط في الطوائف لا يقهر، بحيث لا تمثل كل طائفة منها سوى رأي خاص ببعض الأفراد، و"بما أنه من المستحيل في مثل تلك الظروف الاتفاق على عقيدة واحدة، فقد استبدلت بها الأخلاق وأحلتها محلها، لينتهي الأمـر بـهـا إلـى الـتـدرج في الانحلال أخـيـراً من (الأخلاق البروتستانتية) إلى ما يسمى بـ (الأخلاق العلمانية) التي تضم بين أنصارها ممثلي جميع تشعبات (البروتستانتية الليبرالية)، بالإضافة إلى المناهضين - المصرحين عن أنفسهم – لكل فكرة دينية".ه
كما تتجلى غوغائية البروتستانتية ولا منطقيتها، كما يرى غينون، في أنها حين أجهدت نفسها في أنسنة الدين أبقت – على الرغم من ذلك – على عنصر فوق إنساني ألا وهو الوحي، وإن نظرياً على الأقل، ومع أنها لم تجرؤ على الإيغال في إنكاره، فإنها بطرحها إياه للنقاش الناتج عن التأويلات ذات الصبغة الإنسانية البحتة فقد اختزلته في الواقع حتى لم يعد يمثل شيئاً في نظر أتباعهـا الـذيـن مـا يـزالـون يـقـولـون عـن أنـفـسـهـم إنـهـم (مسيحيون)
إن ما لحظه غينون هنا أكده فيما بعد مؤرخو الكنيسة ودارسوها ، فها هو جون لوريمر صاحب كتاب (تاريخ الكنيسة) يأتي فيما بعد ، ليتحدث عن تكاثر الطوائف باعتباره نتيجة مباشرة من نتائج (الإصلاح)، فكانت كل طائفة تعتقد أنها تلقّت نوراً خاصاً، وأنها وحدها هي كنيسة يسوع الحقيقية، فكان هناك : (المونزيرون) منكرو عـمـاد الأطفال، و(الآدميون) الذين ساروا عراة، و(الشيطانيون) الذين أمنوا أن الشيطان من أهل الخلاص في يوم الدينونة، و(البولسيون) الذين ادّعوا أن لديهم رسائل بولس الأصلية، و(الإخوة النائحون)، وعلى نقيضهم (الإخوة الصامتون) الذين حرّموا الوعظ، و(الفاجرون) الذين كانوا يضاجعون جهاراً، وقد ظلت هذه الطوائف والمذاهب في تكاثر مطرد حتى بلغ مجموع المذاهب المختلفة في إفريقيا وحدها، على سبيل المثال، في إحصائية سنة 1968 م (6000) مذهب وطائفة، وقد سُمّي كثير منها بأسماء غريبة عجيبة مثل:
كنيسة زيت الخروع الإفريقية الميتة .
كنيسة أورشليم الرسولية الإفريقية المصلحة .
كنيسة نور الشمس ذات الأركان الأربعة الرسولية الشاهدة لله.
:وهنا يمكن لبعضهم تقديم الاعتراض التالي
ألم يكن باستطاعة البروتستانتية التي قبلت بالكتب السماوية واعترفت بها أن تحتفظ، عندما انفصلت عن المؤسسة الكاثوليكية، بالعقيدة التقليدية التي تتضمنها هذه الكتب؟
يجيب غينون : إن إدخال (حرية النقد) هو الذي يتعارض تعارضاً مطلقاً مع فرضية كهذه، فلطالما أفسحت البروتستانتية المجال لجميع التخيلّات والنزوات الفردية في تفسير النصوص، في الوقت الذي يتطلب الحفاظ على العقيدة تعليماً تقليدياً منظماً يحافظ من خلاله على التفسير الأصيل، ذلك التعليم الذي كان يتطابق في الواقع مع الكاثوليكية في العالم الغربي . ولعل صرخة غينون هنا كانت متساوقة مع صرخات كارل يونغ: "البروتستانتية تهدم الأسوار الدفاعي".ه
ويقول يونغ في هذا الصدد: "منذ تلك الأيام (أيام الانفصال عن الكثلكة) والبروتستانتية مرتع للشِّيَع ، وفي الوقت نفسه مرتع للاستزادة من العلوم والتقانات التي اجتذبت الواعية البشرية اجتذاباً نسيت معه ما في الخافية من قوى لا تدخل في نطاق الحصر. إن كارثة الحرب العظمى وما أعقبها من أعراض خارقة وعلامات صارخة عليا لاضطرابات عقلية عميقة لم يكن لها بد من أن تجعلنا نشك في عقل الإنسان الأبيض وفي (أنّ كل شيء على ما يرام)، وها نحن أولاء بإزاء مشهد مذهل: دول تدعي لنفسها ما ادعته الثيوقراطية في قدم الزمان، أعني بذلك الأنظمة التوتاليتارية وما يرافقها من قمع لحرية الرأي، وأناس يحزون حناجر بعضهم بعضاً انتصاراً لنظريات صبيانية تتعلق بكيفية إقامة فردوس على الأرض".ه
ويوسّع غينون دائرة بحثه، فالإصلاح البروتستانتي هو سقوط ديني، وقد امتزجت نتاجاته بنتاجات السقوط الفلسفي، إذ تندمج التجربة الدينية بـ (الذرائعية) التي يُنادى باسمها بفكرة إله محدود على أنها فكرة أكثر (ملاءمة) من فكرة إله لا منتهٍ، لأنه يمكن الشعور تجاه هذا الإله بعواطف مشابهة لتلك التي يشعر بها بعضهم تجاه شخص أعلى منهم
أما الخلاصة التي يخلص إليها غينون فهي: إن ما تبقى من الدين بعد ما سمي بـ (الإصلاح البروتستانتي) لا يمكن اعتباره ديناً ولو بشكل منقوص ومشوه
لقد أُعجب المصلحون الأوائل كالأفغاني وعبده ورضا بالبروتستانتية، ورجوا أن يقوموا بالدور نفسه الذي قام به لوثر، ولكنهم لم يتبصّروا في مآلاتها، ولم يُتح لهم أن يتحققوا من مصائرها، وإلا لكان لهم ــ فيما أحسب ـ رأي آخر وحكم مختلف كان من شأنه أن يخفّف الدعوة لإصلاح إسلامي على الطريقة البروتستانتية بدون التمعن في النقود التي وجّهت لهذا الإصلاح، وبدون التفكير المليّ المتزن الذي يكبح من يرنو للإصلاح، وهو يحطّم التأويلات السابقة من أن يقدّم تأويلات جديدة يوغل فيها إيغالاً مفرطاً يوقعه فيما أخذه القرآن الكريم على الأولين {يحرّفون الكلم عن مواضعه}.
:إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه الإصلاح هو فيما يلي
كيف يحافظ المصلح على الخيط الفاصل بين محاربة البدع، والسمسرة الروحية، والعقلية الخوارقية، وحاكمية العادات، والتبرير بدل التفكير، وبين الإيمان بالغيب، وقيام الدين على الطاعة والتسليم، وعدم اختزال النسق الروحي في نسق زمني دنيوي؟
إنه خيط أدق من الشعرة وأحد من السيف
...
من كتابي: (من ينابيع التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق