المطران أنيس أبي عاد |
تمهيد:
نعيت
في صفحتي على الفيس بوك سنة 2017 أنيس أبي عاد المطران السابق
لموارنة
حلب، وكنت أعرفه معرفةً شخصية فترحمت عليه بما لمست فيه من خصال اللطف والدماثة
والإخبات، ونعيت سنة 2021 المفكر والكاتب والأكاديمي ورجل الدين المسيحي Hans Kong مترحماً عليه، وكان كما
ذكرت في نعيي إياه: "أشبه ما يكون بخبير نزع ألغام الكراهية وسوء الفهم
المزروعة في أرض المؤمنين على اختلاف أديانهم، وكان قد قدم خدمات جليلة للإسلام
والمسلمين ولا سيما في كتابه Der Islam: Geschichte, Gegenwart,
Zukunft.".
وهنالك
اليوم بعض المسلمين يعترضون على ذكر أمثال هذين السيدين بالرحمة مستندين إلى تراث
فقهي يمنع عموماً من الترحم على غير المسلم، إلى درجة تكفير هذا المترحم، وهو
الموقف الفقهي التقليدي الذي يلخصه أحد المواقع الإلكترونية الدينية بما يلي:
"الترحم
على الكافر والصلاة عليه من المحرمات المجمع عليها، ومن الاعتداء في الدعاء: لقوله
تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى: وقد قال تعالى: ﴿ادعوا
ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين﴾ [الأعراف: 55] في الدعاء، ومن الاعتداء في
الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس
منهم، أو المغفرة للمشركين، ونحو ذلك. انتهى.
وجاء
في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أن الاستغفار للكافر محظور، بل بالغ بعضهم،
فقال: إن الاستغفار للكافر يقتضي كفر من فعله؛ لأن فيه تكذيباً للنصوص الواردة
التي تدل على أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وأنّ من مات على كفره، فهو من أهل
النار".
كما
يردد بعضهم قول الإمام النووي: "وأما الصلاة على الكافر، والدعاء
له بالمغفرة، فحرامٌ بنصّ القرآن والإجماع".
أما
بعض طلاب العلم المعاصرين فلم يكتفوا بالأدلة السابقة بل راحوا يفتشون في آي
القرآن الكريم عمّا يؤكد هذا الحكم فوقعوا على قوله تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء،
فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ [الأعراف: 156]،
وأكّدوا أنّ الرحمة لن تطال سوى المتقين المزكين المؤمنين بآيات الله، وأنّ الذي
يطلب الرحمة لمن لا يؤمن بآيات الله يعاند الله ويتألى عليه.
تفصيل
البحث:
إنّ
ما ذهب إليه الفقهاء في هذه المسألة هو مجرد اجتهاد هو أقرب للخطأ منه إلى الصواب.
تسالموا عليه، ثم تداولوه جيلاً بعد جيل من دون مناقشة، ومَنْ فحصه منهم ووجد فيه
ثغرة عمد إلى ترقيعها وتلزيقها فأضاف ضغثاً على إبّالة.
أما
الفقهاء الذين أبدوا مخالفتهم فلم يُسمع صوتهم، ولم يتداول رأيهم! وسوف نبيّن في
هذا البحث أنّ قراءة الفقهاء السابقين للنصوص الدينية في هذه المسألة ليست هي
القراءة الاستدلالية الوحيدة التي لا تحتمل منافساً أو مزاحماً! بل هي قراءة من
جملة قراءات أخرى يمكن عرضها وتقديمها، بل إنني أدّعي أننا نقدّم رؤية تتجنّب
المشكلات التي أوقع الفقهاء أنفسهم فيها من خلال قراءتهم المتسرّعة وغير المتثبّتة.
وأوّل
الملاحظات التي أسوقها حول قراءتهم ملاحظتان:
الأولى:
خلطهم بين المصطلحات القرآنية وعدم التفريق بين (المشرك، والكافر، والكتابي)،
ودمجهم جميعاً في لفظ واحد هو (الكافر)، علماً أنّ القرآن الكريم لا يدمجهم هذا
الدمج في أحكامه، بل يُفصلّ ويفرّق حتى في المصطلح الواحد، فيعرض لمراتب وحالات
ودرجات مختلفة، وكل حالة من هذه الحالات لها حكم مختلف ومقتضى مغاير. إنّ هذا
الخلط في المصطلحات يقف وراء الكثير من الأخطاء في الأحكام والتجاوز فيها، وعسى أن
يسعفنا الحظ مستقبلاً لإفراد هذه الظاهرة ببحث مستقل.
الثانية:
افتراضهم معاني ومقتضيات وإلزامات يلزمونها المترحّم من دون أن يلتزم هو نفسه بها،
ويبنون عليها حكمهم الذي يصل إلى حدّ التكفير كما رأينا!
لقد
ارتكز الفقهاء في تحديد العلاقة مع غير المسلم على سورتين هما (التوبة)
و(الممتحنة) في قراءة أقل ما يُقال فيها بأنّها تلاحظ آية وتُعرض عن أخرى. وسأركز
هنا على سورة (التوبة) لأقول:
إنّ
هذه السورة هي أكثر سورة في القرآن تكررت فيها كلمة (المشركين)، وإذا تمعّنا في
ورودها وتكرارها فسندرك أنّها تحيل إلى أناس حاضرين محدّدين معروفين معهودين،
وليست عامة مستغرقة لكل من يُطلق عليه وصف (مشرك)، بل تتحدث عن فئة مخصوصة في ذلك
الزمن ممن نقض العهد وجاهر بالعداء، ﴿كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً
ولا ذمة﴾ [التوبة: 8]. فالمشركون في هذه السورة فئةً عرفهم المسلمون بأسمائهم
وأعيانهم، وكان منهم أقرباء وأصدقاء، فجاء الحكم بقتالهم وقتلهم وأسرهم والتضييق
عليهم، وأخيراً بقطع كل العلائق معهم في جميع المستويات إلى درجة منع الاستغفار
لهم الذي يوحي بارتباط عاطفي أو تعلق قلبي ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]،
والدليل على أن المقصود بالمشركين ههنا فئة محصورة محدودة أن الآيات تتحدّث عن
أئمة الكفر الحاضرين الذين كانوا يديرون عملية مواجهة الإسلام والمسلمين، والذين
نكثوا عهودهم مع المسلمين، وهمّوا بإخراج الرسول، ﴿فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا
أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم
بدأوكم أول مرة﴾ [التوبة: 12 ــ 13]، ويخاطبهم القرآن الكريم في بداية السورة
مخاطبة الحاضر فيقول لهم: ﴿فإن تبتم فهو خير لكم﴾ [التوبة: 3]، فالحديث عن فئة
محدّدة واضحة معروفة ناقضة للعهد معادية مناجزة للمسلمين تتربص بهم الدوائر، وتهمّ
بأذية الرسول وإخراجه، وهم مشركو قريش الذين ظاهروا بني بكر في عدوانهم على حلفاء
الرسول من بني خزاعة (١)، فهؤلاء الذين نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية هم أيضاً
من بدأ قتال المسلمين أول مرة يوم بدر، لأنّهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى
نستأصل محمداً ومن معه. ولذلك فقد أُعطوا مهلةً تنتهي بانسلاخ الأشهر الحرم ﴿فإذا
انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل
مرصد﴾ [التوبة: 5]. وواضح هنا أيضاً أنّ المسلمين، في تلك الآونة، لم يفهموا هذا
الأمر للتكرار، بمعنى أنّهم يجب عليهم في كل سنة أن يمسكوا عن المشركين في الأشهر
الحرم، فإذا انسلخت هبّوا ليقتلوا المشركين حيث وجدوهم، بل فهموه لمرة واحدة، لأنّ
المقصود بالمشركين هم هذه الفئة المعينة، فرُبط الحكم بها، وأنيط بأفرادها، ولولا
هذا الفهم لوجب أن يقتل المسلمون كلّ مشرك يرونه أمامهم في كلّ زمان ومكان! ولكننا
ندرك أن الحديث هنا يدور حول فئة مخصوصة مجرمة لا يتعداها لغيرها، وكما أن الأمر
بالقتل هو فقط لهذه الفئة المجرمة، فكذلك نفي الاستغفار ههنا هو لهؤلاء المشركين
أنفسهم الذين يدور الحديث عنهم. وليس نهياً عاماً طاماً، والدليل على ذلك أيضاً
أنّه لا يجمل المشركين في حكم واحد بل يستثني منهم أهل الوفاء: ﴿كيف يكون للمشركين
عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام﴾ [التوبة: 4]، وهم
مشركو بني كنانة وبني ضمرة، وهكذا يفرّق القرآن الكريم في حكمه بين الوافين
والغادرين.
وسواءً
أقلنا: إن هذا المصطلح خاص بأقوام معينين كان يتحدث القرآن الكريم عنهم في تلك
اللحظة، أو قلنا: بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإنّنا سنصل إلى النتيجة
نفسها، لأنّ جميع الأحكام الواردة في هذه السورة من التبرؤ من المشركين، والنهي عن
موالاتهم وإقامة العلاقات الاجتماعية معهم، وعدم الاستغفار لهم، والمطالبة بقتلهم
وأخذهم وحصرهم، ليس المناط فيها وصف الشرك، ولكن وصف نقض العهد والنكث به
والاعتداء وإخراج المسلمين من ديارهم. ﴿لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم
المعتدون﴾ [التوبة: 10]. والدليل على أن مناط هذه الأحكام هو وصف العدوان لا وصف
الشرك، أن العدوان إذا انتفى انتفت معه المطالبة بالقتل والأخذ والحصر، فالسورة
نفسها تقول: ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه
مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون﴾ [التوبة: 6].
وهكذا
نحن أمام مشرك معتدٍ نقاتله ونحاصره، وأمام مشرك مسالم لا يعلم يأتي إلينا ويطلب
منا الأمان، فنرعاه ونحوطه ونحميه حتى نبلغه مأمنه.
ما
الذي يعنيه هذا الكلام؟ يعني أنّ مدار هذه الأحكام ليس على وصف الشرك، ولكن على
وصف الجرم والاعتداء. فلو قامت هذه الأوصاف بالمسلم نفسه فإنّنا سنعامله المعاملة
نفسها فلا نترحم عليه ولا نسالمه ولا نصافيه ولا نحابيه إن كان معتدياً مجرماً، بل
ونلعنه حياً وميتاً مثلما تلعن اليوم جموع الناس الطبقة الديكتاتورية المجرمة من حكام
المسلمين.
ونقول
مرة أخرى: إذا أردنا أن نقول إنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهذا التعميم
يشمل حال المشرك المسالم في كل زمان فيجب علينا أن نرعاه ونحوطه، بل ونبره ونقسط
إليه، ويشمل حال المشرك المعتدي في كل أوان فيجب أن نقاتله ونقطع العلاقات معه وننتهي
عن الاستغفار له. ولكن هل نرعى ونحوط فقط المشرك المسالم؟ أم كل إنسان مسالم سواءً
أكان مشركاً أم غير مشرك؟ وهل نقاتل المشرك المعتدي ونقطع علاقات المودة والتراحم
معه أم مع كل معتد أثيم غاشم بغضّ النظر عن شركه من عدمه؟ وإذا كان الجواب أنّنا
نفعل ذلك مع المشرك وغير المشرك دلّ ذلك على أنّ وصف الشرك هنا ليس محلاً أبداً
لأحكام المسالمة والموادعة والمجاملة والتواد والتراحم والترحّم، وليس علةً لأحكام
القتال والمناجزة، ودلّ ذلك أنّ حديث القرآن كان عن فئة معهودة معروفة أطلق عليها
وصف المشركين تمييزاً لها عن المؤمنين بالنبي وعن المنضوين تحت حلفه من المتعاقدين
معه والموفين بعهدهم ولو لم يكونوا مسلمين. يقول تعالى: ﴿ومن يقتل مؤمناً متعمداً
فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه﴾ [النساء: 93]، فسواء أكان المجرم
القاتل المعتدي مشركاً أو مسلماً فهو ملعون ومغضوب عليه، وسواء أكان المسالم
مشركاً أم مؤمناً فهو مرعي ومحوط ومكرّم نبرّه ونقسط إليه.
اعتراضات
وأجوبة:
هنالك
اعتراضات عديدة على هذا الطرح، وأذكر هنا أهمّها:
الأول:
إهمال الأحاديث النبوية التي تفسر سبب نزول الآيات.
الثاني:
عدم الالتفات إلى قوله تعالى: ﴿إن الله لايغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء﴾ [النساء: 48]! فالاستغفار لمن قطع الله بعدم غفران شركه هو سوء أدب مع الله.
وقد قال تعالى أيضاً: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة
والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ [الأعراف: 156]، فالرحمة لن تطال سوى المتقين المزكين
المؤمنين بآيات الله، والذي يطلب الرحمة لمن لا يؤمن بآيات الله يعاند الله ويتألى
عليه.
الثالث:
كيف أجرؤ على مخالفة إجماع المسلمين الذي نصّ عليه الإمام النووي؟
الرابع:
ما الذي يستفيده المشرك من الدعاء بغفران ذنوبه ما عدا غفران شركه الذي يجعله من
أهل النار؟
أما
جواب الاعتراض الأول:
فهأنذا
أسوق روايات أسباب النزول التي ذكرها المفسرون، والتي اتكأ عليها الفقهاء واستمدوا
منها حكم التحريم:
١ ــ "لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ
الوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ
المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ
كَانُوا أُولِي قُرْبَى، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
الجَحِيمِ﴾" (٢).
٢ ــ مررت بِقَبْر أُمِّي آمِنَة
فَصليت رَكْعَتَيْنِ فاستأذنت رَبِّي أَن اسْتغْفر لَهَا فنهيت فَبَكَيْت ثمَّ عدت
فَصليت رَكْعَتَيْنِ فاستأذنت رَبِّي أَن أسْتَغْفر لَهَا فزُجرت زجرا فعلا
بُكَائِي ثمَّ دَعَا براحلته فركبها فَمَا سَار إِلَّا هنيَّة حَتَّى قَامَت
النَّاقة لثقل الْوَحْي فَأنْزل الله ﴿مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا
للْمُشْرِكين﴾ (٣).
٣ ــ عَن عَليّ قَالَ: سَمِعت رجلا
يسْتَغْفر لِأَبَوَيْهِ وهما مُشْرِكَانِ فَقلت: تستغفر لِأَبَوَيْك وهما
مُشْرِكَانِ فَقَالَ: أَو لم يسْتَغْفر إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ فَذكرت ذَلِك
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت ﴿مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا
أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين﴾ (٤).
وسوف
نجد في كتب التفسير بالمأثور هذه الأسباب الثلاثة لنزول هذه الآية مع اختلافات
يسيرة في رواياتها، نمسك عن إيرادها تخفّفاً واختصاراً، لأن إيرادها لن يقدم شيئاً
زائداً على هذه الروايات التي أثبتناها.
وسبب
النزول الأول يوقعنا في مشكلات أكثر من أن يضيء لنا معنى النص، فهو يقول بأنّ هذه
الآية الكريمة نزلت بعد حادثة وفاة أبي طالب علماً أنّ سورة براءة مدنية ما خلا
آخر آيتين فيها! فإذا كانت وفاة أبي طالب في السنة التاسعة للبعثة، فإنّ نزول هذه
الآية كان، بحسب ما يذكره المفسرون، في السنة الثالثة والعشرين للبعثة، وهذا
التأخير في كل هذه السنوات يُفقد سبب النزول معناه ويفرّغه من محتواه من جهة،
ويشير إلى أنّه ملزق تلزيقاً بهذه الآية ولا علاقة له بها من جهة ثانية، وسبب
النزول هذا يقول بأنّ النبي ظلّ يستغفر لعمه طوال هذه المدة إلى أن نزلت هذه الآية
الكريمة، وبحسب منطق الاعتراض الثاني فإن النبي ظل يسيء الأدب مع الله، وحاشاه
ذلك، وهو يستغفر هذا الاستغفار، ولا سيما أن قوله تعالى ﴿إنّ الله لا يغفر أن
يُشرك به﴾ [النساء: 48] نزل قبل الآية التي تنفي الاستغفار للمشركين بسنوات!
أما
سبب النزول الثاني المتعلق بوالدة النبي عليه الصلاة والسلام فواضح بطلانه،
فالقرآن الكريم يقول: ﴿وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ [الإسراء: 15] فهي وكل من
كان في زمنها لهم حكم خاص وتسمية خاصة هي (أهل الفترة)، ولو رحنا نعدّ العلماء
الذين قالوا بنجاة والديّ النبي عليه الصلاة والسلام لطال بنا المقام، وهؤلاء
جميعهم لا يأخذون بهذه الرواية، ويرونها تتعارض مع القرآن الكريم، ومع منطق
التشريع العادل. على أنّ العلامة المفسر الطاهر بن عاشور اختصر الحديث عن أسباب
النزول بعد إيرادها، ونقل كلام الإمام أبي بكر بن العربي في كتابه عارضة الأحوذي
بوصفها أخباراً واهية، على الرغم من ورود السبب الأول في صحيح البخاري (٥).
ونحن
هنا أمام ظاهرة تتكرر في أسباب النزول، فبدلاً من أن يبحث المفسرون عن سبب للنزول
ينسجم مع سياق الآيات نفسها، ومع موضوعها وهمومها، يفتشون عن حوادث مضت وانقضت منذ
عدة سنوات لمجرد تشابه شكلي بينها وبين الآيات، مما يشير إلى أنها مركّبة على هذه
الآيات تركيباً، وهذه ظاهرة مشكلة في علم أسباب النزول حيث يتداخل الزمان المكي
والمدني بشكل اعتباطي، فيكون سبب النزول في الفترة المكية قبل الهجرة ويكون النص القرآني
في الفترة المدنية بعده بسنوات، أو يكون النص القرآني مكياً، ثم يقولون بأنّ سبب
نزوله هو الحادثة الفلانية، وتكون هذه الحادثة مدنية حدثت بعد نزول الآيات بسنوات،
ونحيل هنا إلى دراسة بسام الجمل حول (أسباب النزول) فقد قدّم عدة أمثلة لذلك (٦).
نعم
كان يجب أن يبحث العلماء عن أسباب النزول عند المشركين الذين نقضوا العهد وخانوا
الاتفاق وتمالؤوا على المسلمين بعد صلح الحديبية، وليس عند عمّ النبي أبي طالب،
نصير الإسلام الأول وحامي النبي الأقوى، والذي كان عام موته عام حزن وأسى، وليس
عند والدته الطاهرة المطهرة، وليس عند آباء الصحابة الذين ماتوا ولا ندري متى
ماتوا قبل البعثة أو بعدها.
وأما
جواب الاعتراض الثاني:
فنابع
أيضاً عن تسرّع وقصور نظر، فالترحم على المشرك لا يعني بأي حال من الأحوال إساءة
أدب مع الله، بل يعني الامتثال لأوامره التي وردت على لسان رسوله المكرم
"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (٧)، والترحم من مصاديق هذه
الرحمة التي أُمرنا بها، لكي تتحقق إنسانيتنا وتتطامن نفوسنا، وأما كيف يستجيب
الله سبحانه فهذا شأن إلهي لا يخصنا. ويذحر تراثنا الإسلامي بما يؤيد هذه النظرة
من خلال الفهوم الراقية التي صدّرها لنا من ندعوهم بـ (أهل الله)، لأنهم الأشد
فهماً لمراداته. ويكفي هنا أن أستعرض رأي الشيخ الأكبر ابن عربي الذي كان يرى أنّ
للمشرك نصيباً من الرحمة، لأنّ له نصيباً من التوحيد، وهو توحيد المرتبة الإلهية
العظمى، فهو عندما يعبد ما يقربه إلى الله زلفى ويتخذ شفعاء عند الله يشير إلى
أنّه يوحّده في عظمته، إذ ليس للشريك هذه الرتبة، ولو كانت له هذه الرتبة ما اتخذه
شفيعاً، فالشفيع لا يكون حاكماً. ولذلك يرى الشيخ الأكبر أنّ للمشرك رائحةً من
التوحيد، وبهذه الرائحة ينال رحمةً من الله، وإن لم يخرج من النار. وبناءً عليه
فطالب هذه الرحمة للمشرك المسالم لا يُعد متعدياً ولا متجاوزاً، أما الذي يمنعها
فهو الكزُّ القتور اليابس.
وكذلك
نجد عند الشيخ الأكبر تفسير الآية الكريمة ﴿ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين
يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ [الأعراف: 156]، فالرحمة نوعان:
رحمة مقيدة لفئة مخصوصة تدعى رحمة الوجوب، لأنّ الله أوجبها على نفسه، ورحمة مطلقة
تدعى رحمة المنّة، وهذه الآية الكريمة مخصوصة بطائفة من أهل الكتاب يتقون ويؤتون
الزكاة ويؤمنون بآيات الله ويتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم:
﴿ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا
يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة
والإنجيل﴾ فهؤلاء طائفة مخصوصة يخرج من ليس منهم من هذا التقييد الوجوبي، ولكن
تبقى الرحمة في حق من خرج مطلقة ينتظرها من عين الفضل والمنّة. وهكذا فالدعاء
للمسلم ولغير المسلم هو دعاء بالرحمة العامة، وهي رحمة الامتنان، وأما الرحمة
الخاصة الواجبة فهي لفئتين مخصوصتين ورد ذكرهما في القرآن الكريم الأولى هي لأهل
الكتاب الذين آمنوا بالنبي الأمي، والثانية هي للتائبين: ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة
أنّه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنّه غفور رحيم﴾
[الأنعام:54]، فالله يغفر للتائب ولغير التائب، ولكنه يغفر للتائب ويرحمه بالرحمة
الواجبة، ويغفر لمن سواه بالرحمة المطلقة رحمة المنّة.
أما
جواب الاعتراض الثالث:
حول
مخالفتي ما نقله الإمام النووي من إجماع العلماء على حرمة الترحم على غير المسلم،
فإنني لا أخالفه في هذه المسألة فقط بل وفي مسائل أخرى عديدة أذكر منها الآن
واحدة، وأترك غيرها إلى مناسبات أخرى، وهذه المسألة هي نقل الإمام النووي إجماع
العلماء على حرمة الخروج على الحاكم المتغلب. هذا الإجماع الذي اعتدَّ به كل من
أيَّد المستبدين العرب، ورفضه ولم يلتفت إليه كلّ من خرج
عليهم وطالب بإسقاطهم.
إن
مخالفة عالم في مسألة ينقل الإجماع عليها أمر فيه سعة، وإن تساهل بعض العلماء،
كالإمام النووي رحمه الله، في نقل الإجماع أمر شائع. لذا فإنني أنصح أرباب الحميّة
الدينية أن يخفّفوا من حميّة الإدانة والتأثيم، ويتريثوا في اندفاعة التّهجّم
والتجريم.
على
أنني لست بدعاً في مخالفة الإمام النووي، فهذان العالمان قليوبي وعميرة في
حاشيتهما على كتاب النووي (منهاج الطالبين) يصرحان بمخالفتهما إياه في هذه المسألة التي
يدعي الإجماع عليها، فنقرأ في هذه الحاشية في كتاب صلاة الميت وتغسيل الكافر:
"الدعاء للكافر بالمغفرة جائز إلا إن كان على طريقة المصنف، كما تقدم، أو
يُقال إنّ العموم يشمل ذنب الكفر، وهو غير جائز" (٨). والمقصود بالمصنّف هنا
الإمام النووي.
ثم
نقرأ في موضع آخر من الحاشية في أركان صلاة الجنازة: "وَفِي كَلَامِ ابْنِ
حَجَرٍ حُرْمَةُ الدُّعَاءِ لِلْكَافِرِ بِـ [دعاء] أُخْرَوِيٍّ وَفِيهِ نَظَرٌ،
وَالرَّاجِحُ خِلَافُهُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ جَوَازُ
الدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ خِلَافًا لِمَا فِي الْأَذْكَارِ كَمَا
تَقَدَّم" (٩).
ثم
نقرأ مرة ثالثة في صلاة الاستسقاء: "يجُوزُ إجَابَةُ دُعَاءِ الْكَافِرِينَ،
وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ لَهُ وَلَوْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، خِلَافًا لِمَا
فِي الْأَذْكَارِ إلَّا مَغْفِرَةَ ذَنْبِ الْكُفْرِ مَعَ مَوْتِهِ عَلَى
الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ" (١٠).
لقد
كان حال الفقهاء على مدار تاريخ التشريع الإسلامي متذبذباً بين الطيران والتحليق
في أفق الفهم القرآني والنبوي يتلمسون من خلالهما مرادات الله تلمساً لماحاً ذكياً
وبين الإسفاف والانحدار إلى سوء فهم وانغلاق أفق، ومن العجيب حقاً أنّهم لم
يتناولوا في سورة التوبة نفسها بقية الأحكام التي تخص المشركين ذلك التناول
الظاهري، فلم يفهموا من قوله تعالى: ﴿إنما المشركون نجس﴾، أن المشركين نجسون في
ذواتهم، بل اتفقوا على طهارة أجسامهم، وقالوا: إنّ النجاسة في اعتقادهم لا في
ذواتهم، حتى إنّ الأوزاعي والشافعي وأبا ثور وغيرهم لم يروا بأساً في شرب سؤر
الكافر، والأعجب من ذلك فهم الفقهاء الحنفية لبقية الآية: ﴿إنما المشركون نجس فلا
يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ [التوبة: ٢٨]، فبينما قال الشافعي: بمنع المشركين
من دخول المسجد الحرام منعاً مطلقاً أخذاً بظاهر هذه الآية، لم يرَ الحنفية مانعاً
من دخول المشرك المسجد الحرام، وقالوا بأنّ الآية محمولة على منعهم من أن يدخلوا
المسجد الحرام مستولين عليه ومستعلين على أهل الإسلام من حيث التدبير والقيام
بعمارة المسجد، أو ممارسين عبادة الطواف عراةً على الوجه الذي اعتادوه في
الجاهلية. أما إذا خلوا من ذلك فلا يُمنعون من دخول المسجد الحرام ولا من دخول
سائر المساجد، ويستوي في ذلك الحربي والذمي. وهذا فهمٌ سديد وملحظ معقول.
أما
جواب الاعتراض الرابع:
ما
الذي يستفيده المشرك من الدعاء بمغفرة ذنوبه دون مغفرة شركه، وأنا ههنا لن استعرض
ما الذي يستفيده وقد ورد في ذلك بعض الآثار، ولكني أقول: إن الذي يستفيد أولاً هو
الداعي نفسه، إذ يعبّر بدعائه عن رحمته، ووفائه، وبره، وإنسانيته. يستفيد اهل
الميت الذين يجدون نوعاً من العزاء والمواساة عندما يسمعون الكلم الطيب يخرج من فم
أو قلم صديق أو محب يختلف عن فقيدهم في الدين ويجتمع معه في الطيبة والخُلق
والإنسانية.
مشكلات
منع الترحم على غير المسلم:
عندما
أصرّ الفقهاء على منع الترحم على غير المسلم، وقعوا في مشكلات أمام النصوص الدينية
التي تنقض رؤيتهم، وأشير هنا إلى بعضها وكيف حاولوا الفكاك منها، فبحسب الآثار
الواردة كان الرسول يستغفر لعمه ولأمه حتى بعد نزول الآية الكريمة ﴿إن الله لا
يغفر أن يُشرك به﴾، وبحسب منطق المانعين فإن في ذلك اعتداء في الدعاء، فيكفي ورود
هذه الآية ليمتنع الرسول عن الاستغفار للمشركين ولو لم تنزل آية سورة التوبة،
ونقرأ جواباً ضعيفاً لذلك يورده المفسر الألوسي في روح المعاني: "وبعضهم جوّز
أن يكون عليه الصلاة والسلام لوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى
لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه، أو لا يغفر الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر
الجوارح وعلم من عمه أنّه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة" (١١)، وهكذا نرى
كيف أوّلت هذه الآية للخروج من مأزق هذا الأثر الوارد.
وفي
هذه المسألة بالذات يحيلنا القرآن الكريم إلى نبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أسوة
لنا في قضية الاستغفار للمشرك فيقول: ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَة فِیۤ
إِبۡرَ ٰهِیمَ وَٱلَّذِینَ
مَعَهُۥۤ إِذۡ قَالُوا۟ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَ ٰۤؤُا۟
مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَیۡنَنَا
وَبَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةُ
وَٱلۡبَغۡضَاۤءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُ إِلَّا قَوۡلَ
إِبۡرَ ٰهِیمَ لِأَبِیهِ
لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَاۤ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡء رَّبَّنَا عَلَیۡكَ
تَوَكَّلۡنَا وَإِلَیۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ﴾ [الممتحنة 4]، ويقول: ﴿وَمَا
كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَ ٰهِیمَ
لِأَبِیهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَة وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥۤ أَنَّهُۥ
عَدُو لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ
لَأَوَّ ٰهٌ حَلِیم﴾ [التوبة
114].
قال
المفسرون: إنّ إبراهيم استغفر لأبيه لأنّ أباه وعده بأن يؤمن بالله، فلما مات الأب
من دون إيمان تبين له أنّه عدو لله فتبرأ منه وأمسك عن الاستغفار له، وهذا الكلام
يتماشى تماماً مع الرأي الشائع في تحريم الاستغفار للمشركين، لكنّ هذا الرأي لا
يلبث أن يصدم بدعاء إبراهيم في آواخر سني حياته، وبعد أن تجاوز المئة سنة بالمغفرة
لوالديه في لحظة صفاء روحي عالية تفيض بالمشاعر الإنسانية والعواطف الأبوية.
﴿ٱلۡحَمۡدُ
لِلَّهِ ٱلَّذِی وَهَبَ لِی عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَۚ إِن
رَبِّی لَسَمِیعُ ٱلدُّعَاۤء رَبِّ ٱجۡعَلۡنِی مُقِیمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن
ذُرِّیَّتِیۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَاۤءِ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِی وَلِوَ ٰلِدَیَّ
وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ یَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 39 ــ 41].
وحقيقةً
سوف نرى حلولاً تثير التساؤلات للخروج من مأزق هذا الدعاء والاستغفار، فسنقع على رأي يقول
بأنّ آزر عمه وليس أباه، وسنقع على رأي آخر يقول بأن إبراهيم عليه السلام تبيّن له
أن أباه عدو لله في يوم القيامة وليس في الدنيا، وَذَلِكَ "أَنَّ أَبَاهُ
يَتَعَلَّقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجُوزَ الصِّرَاطَ فَيَمُرُّ بِهِ عَلَيْهِ،
حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يُجَاوِزَهُ حَانَتْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْتِفَاتَةٌ
فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فِي صُورَةِ قِرْدٍ أَوْ ضَبعٍ، فَخَلَّى عَنْهُ
وَتَبَرَّأَ مِنْهُ حِينَئِذٍ"، أما بعض التابعين، كإبراهيم النخعي، فلم يجد
حلاً إلا بحذف ألف والديَّ، بحيث تغدو الكلمة (ولديّ)، ويغدو الدعاء لإسماعيل
وإسحاق، ووجد آخرون الحلّ بإسقاط الشدة من الياء فتغدة الكلمة (والديْ)، ثم فسروا
كلمة (والدي) بأمي، قال لأنّ والدته أسلمت بخلاف أبيه. وكل هذه الحلول مجرد تمحّكات
لا داعي لها، وكان بإمكانهم القول إنّ إبراهيم امتنع عن الاستغفار لأبيه باعتبار
كونه عدواً لله، واستغفر له باعتباره والده بعد أن انطوت قصة العداوة وغدا ملفها
لدى الديّان، ولذلك أقول ليس صحيحاً بأن الدعاء الذي نردّده ﴿وقل ربِّ ارحمهما كما
ربياني صغيراً﴾ [الإسراء: 24] يُستثنى منه الوالد الكافر أخذاً من الآية الكريمة
﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾، بل أقول لا يستثنى، ولنا أسوة
في إبراهيم القائل: ﴿ربنا اغفر لي ولوالديَّ﴾.
خاتمة:
نعم
يجوز الترحم على غير المسلم إذا كان مسالماً غير معاد أو باغ، فالملائكة ﴿يسبحون
بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إنّ الله هو الغفور الرحيم﴾ [الشورى: 5].
و(مَن) هنا من أدوات العموم التي تستغرق كل إنسان في الأرض إلا إذا دلّ دليل على
إخراجه، وقد دلّ الدليل القرآني على إخراج القتلة من أهل الجريمة والاعتداء فهؤلاء
ملعونون يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون، وما سوى ذلك فنحن نترحم على المؤمن وغير
المؤمن اقتداءً بالملائكة الذين ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾
[التحريم: 6]، واقتداءً بإبراهيم الذي قال: ﴿فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني ــ أي
لم يؤمن بي ــ فإنك غفور رحيم﴾ [إبراهيم: 36]. وكذلك ورد نظير ذلك على لسان عيسى
يوم القيامة عندما يسأله المولى الكريم: ﴿أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من
دون الله﴾؟ [المائدة: 116] فيجيبه عيسى: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك
أنت العزيز الحكيم﴾ [المائدة: 118]، والله فعلاً وحقاً وصدقاً هو العزيز الحكيم.
لقد
أخذنا هذه الآية أخذ عضين: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم﴾، وعمّمناها على كل غير مسلم من جهة،
ثمّ عمّمناها على كل مشرك من جهة أخرى، وتغافلنا عن قوله تعالى الذي يفسر حدود هذا
النهي. متى يبدأ ومتى ينتهي، ومن يتناول ومن يتجاوز: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن
تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة:
8].
فنحن
منهيون عن أن نستغفر ونترحم ونتولى المجرم، وغير منهيين عن أن نبر العادل ونقسط
إليه، والبر اسم جامع لكل أنواع الخير. نبره بتقديم كل أنواع الخير المادية
والمعنوية، القولية والعملية، في حياته وبعد مماته جزاء مسالمته إيانا. فنحن سلم
ورأفة وعطاء واكتناف لمن كان مسالماً، ونحن مناجزة ومفاصلة ومحاربة لمن كان
محارباً مقاتلاً معتدياً مخاتلاً.
الهوامش:
(١)
رُوِيَ أَنَّهُ بعد أن غدرت قريش ببني خزاعة وَفَدَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ
الْخُزَاعِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّه فأنشده:
لا
هم إني ناشد محمداً ... حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إِنَّ
قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ
بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فَقَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ".
انظر:
محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، (بيروت: دار التراث العربي، سنة 1378
هـ، ط 3)، ج 3، ص 45.
(٢)
انظر: محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تح: محمد زهير الناصر، (الرياض: دار
طوق النجاة، سنة 1422، ط 1)، حديث رقم: 4675، ج 6، ص 69.
(٣)
انظر: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، (بيروت:
دار الفكر، بدون تاريخ)، ج 4، ص 303، وقد عزاه إلى ابن مردويه.
(٤)
أخرجه النسائي والترمذي وغيرهما، انظر: أحمد بن شعيب النسائي، السنن الكبرى، تح:
حسن عبد المنعم شبلي، (بيروت: مؤسسة الرسالة، سنة 2001، ط 1)، حديث رقم: 2036، ج 2، ص 446، وانظر: محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الكبير ــ سنن الترمذي،
تح: بشار عواد معروف، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، سنة 1998)، حديث رقم: 3101، ج 5، ص 132.
(٥)
انظر: محمد الطاهر بن عاشور، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير
القرآن المجيد، (تونس: الدار التونسية للنشر، سنة 1984)، ج 11، ص 44.
(٦)
انظر: بسام الجمل، أسباب النزول، (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي،
سنة 2005، ط 1) ص 211 ــ 212.
(٧)
رواه الترمذي وغيره، انظر: محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الكبير ــ سنن الترمذي،
تح: بشار عواد معروف، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، سنة 1998)، حديث رقم: 1924، ج 3، ص 388.
(٨)
انظر: أحمد سلامة القليوبي، وأحمد البرلسي عميرة، حاشية على شرح العلامة جلال
الدين المحلي على منهاج الطالبين للشيخ محيي الدين النووي، (بيروت: دار الفكر، سنة
1995)، ج 1، 407.
(٩)
المصدر نفسه.
(١٠)
المصدر نفسه.
(١١)
انظر: محمود بن عبد الله الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع
المثاني، تح: علي عبد الباري عطية، (بيروت: دار الكتب العلمية، سنة 1415 هـ، ط 1)،
ج 8، ص 419.
قرأته على صفحتكم منذ أسبوع وكنت سعيدا بذلك .أحسنتم والله ... إنها فطرة الإسلام الأولى .
ردحذفوسعت رحمته كل شيئ يعني كل شيئ بدون استثناءات ..الحجر والجبل والحيوانات والبحار .ولايمكن ان تكون رحمة منقوصة
ردحذفبداية فإن الآية الكريمة التي استشهدت بها من سورة التوبة فيها خطأ ينبغي تصحيحه، وهي قوله تعالى: (ما كان للنبي والمؤمنين أن يستغفروا …) وهذا خطأ، والصواب: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين…).
ردحذفثم إن هذه المسألة ليست محلاً للبحث، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف فيها.
الشكر الجزيل على هذا المقال المفيد والممتع والذي استفدت منه كثيراً.
ردحذفأتصور أنّ تحريم شيء ما ينبغي أن يُبنى على دليل قطعي الدلالة وهذا ما لم يأتِ به المحرِّمون للدعاء أو للترحم على غير المسلمين. لماذا ؟ لأن الدليل العام والنصوص العامة تدخل على شمول الرحمة من الرحمن وخصوصها من الرحيم.
فالشمول تجده في آيات قرآنية كثيرة منها : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " ففي هذه الآية رحمة واسعة وواضحة لمن هم غير مسلمين وفيها كذلك رد على من جعل النصارى من المشركين كونهم يقولون بالتثليث أو بالأبوة لله سبحانه وتعالى.
آجرك الله على ما أجريت به قلمك وأدامك الله ناطقاً وفاعلاً لما هو خير
أخوك كاسر الأسعد
أحسنتم. الشكر لكم. بارك الله بكم.
حذفشكرااااا
حذفمقال رائع، واجتهاد مميز، وبحث جاد
ردحذفكل الشكر لكم