(الغزو الغربي) بين رؤيتين: رؤية كانط، ورؤية رينيه غينون


كان كانط يرى في نظام الحكم الأوليجاركي (حكم الأقلية) السائد في أوروبا السبب الرئيسي والمباشر في ظهور روح (الغزو الغربي) والشَّرَه الاستعماري، حيث كانت تتسرب الأسلاب والغنائم إلى الأقلية الحاكمة.
كان سلوك الدول الأوروبية، في نظر كانط، مشيناً وبعيداً عن الإنسانية، و"خصوصاً الدول التجارية في قارتنا الأوروبية، والمظالم التي تنزلها في شعوب البلدان الخارجية يملأ نفوسنا بالرعب. إنّ مجرد زيارة هذه الدول لتلك الشعوب تعتبر كافية لغزوها، فقد اعتبرت الدول الأوروبية الاستعمارية البلاد التي اكتشفتها كأمريكا وبلدان الزنوج وجزر التوابل ورأس الرجاء الصالح وغيرها بلاداً مباحة لا تخصّ أحداً، ولم تقم وزناً لسكانها الأصليين، وقد وقع هذا كله من أمم ملأت العالم ضجيجاً ولغطاً بتقواها وورعها، وفي الوقت الذي تسقي فيه هذه الأمم الظلم كالماء، تعتبر نفسها صفوة الدين وشعب الله المختار".

وبناءً على ذلك رأى كاط أنّه إذا ما قامت حكومة ديمقراطية، وحلّت محل حكومات الأقلية وساهم كل الشعب في السلطة السياسية فإنّ غنائم النهب والسرقات الدولية ستوزّع على أفراد ىالشعب، ولن يصيب الواحد منهم عندئذ إلا مقداراً ضيئلاً لا يغري على المخاطرة بالحرب من أجل الغنائم والأسلاب، ومن هنا كانت المادة الأولى لتعريف شروط (السلام الدائم) الذي دعا إليه كانط هي أن يكون الدستور المدني لكل دولة دستوراً جمهورياً، وأن لا تعلن الحرب إلا باستفتاء جميع المواطنين، لأننا إذا خيّرنا الذين تقع عليهم أعباء الحرب بين السلم والحرب فإنّهم سيختارون السلم حتماً، وبذلك لن يعود التاريخ يسطّر بالدماء. أما في الدولة التي لا ينصّ دستورها على حق الشعب في التصويت والانتخاب، ولا يشترك الشعب فيها بالحكم، ولا يكون فيها نظام الحكم جمهورياً، فإنّ قرار الدخول في الحرب يكون في أيدي القلة الحاكمة، ويكون الحاكم في هذه الحالة لا مجرّد مواطن فحسب، بل مالك الدولة، وبفضل كونه حاكماً فلن يتعرض إلى أهوال الحرب ومخاطرها وآلامها، ولن يكون ملزماً بالتضحية بملذاته في قصوره بين الموائد والحفلات والخروج إلى الصيد والقنص وما شابه ذلك، لذلك فهو يعلن الحرب لأسباب تافهة، وكأنها ليست سوى رحلة صيد، أما بالنسبة إلى تبرير إعلان الحرب فيتركه بلا اهتمام إلى الهيئات الدبلوماسية التي تكون على استعداد لتقديم خدماتها عن طيب خاطر.
وكأني بكانط هنا بنى رؤيته هذه على واقعة حال، أو على وقائع أحوال، غير أنها لم تكن كافية لإحكام مثل هذا التفسير، أو لإقامة أود هذا التعليل، فقد مرّت الايام والسنون وتحقق ما تمنّاه من قيام دساتير جمهورية وديمقراطيات فعليه، لكن هذه الجمهوريات والديمقراطيات أبت إلا أن تجعل تعليل كانط عليلاً، لا ينقع غصة ولا يشفي غليلاً، وهكذا استمر (الغزو الغربي) وتوسّع وانتفخ وانتفج، وغدت أسنانه لا حياء فيها تقضم كلَّ ما هبّ ودرج.
وعندما نقرأ ما كتبه غينون في وصف هذا (الغزو الغربي نخال أنّه استّله من كانط استلالاً حرفياً لولا أننا نقف أمام هوة سحيقة تقف بينهما في تفسير هذه الظاهرة وتعليلها.
أما تعليل (الغزو الغربي) عند غينون فينبع من سببين:
ــ من أسس الحضارة الغربية الحديثة نفسها. فعندما نقول إنّ الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة مادية، وأنّ المادة في جوهرها كثرة وانقسام، فإنها بالضرورة ستنزع باستمرار إلى التوسع والانتشار.

الحضارة الغربية في ماديتها حضارة غير سوية وحضارة شاذة في تاريخ الحضارات، ولأنّ الفكر المادي هو المسيطر عليها فقد أصبحت وسيلة التفاهم الوحيدة هي (الغزو). الغرب (يغزو) كل شيء، وهو غزو مادي بجميع أشكاله، لأن الجانب المادي في هذه الحضارة هو المجال الأقرب إليها، وهو في الواقع ليس سوى غزو مادي سرش ضرس، ويرى غينون أنّ كل الأقنعة الماكرة وكل الحجج (الأخلاقية)، وكل البيانات (الإنسانية)، وكل المهارات الدعائية التي تحسن الإقناع في الوقت المناسب بالمخادعة والمخاتلة للوصول بسهولة إلى هدفها التخريبي لا تستطيع جمعاء فعل شيء أمام هذه الحقيقة التي لا يشك فيها إلا السذّج وأولئك الذين لهم مصلحة في هذا الفعل الشيطاني.
ــ أما السبب الآخر الذي يقف وراء هذا الغزو فهو (روح التبشير الغربي) الذي لا يتقبّل أن يكون للمرء أحياناً (حلفاء) دون أن يكونوا (تابعين) له ألبتة. وهذه الروح هي أهم عقبة تقف في طريق التفاهم بين الشرق والغرب والغرب.
لذا ينادي غينون قائلاً: "يتحدث بعض الغربيين اليوم عن (الدفاع عن الغرب) في حين نرى أنّ الغرب هو الذي يهدد بإغراق كل شيئ، وبجرّ البشرية بأكملها إلى دوامة حركته المختلة الشاذة وغير المسوّغة إطلاقاً! وحقيقةً إنّ الغرب محتاج للدفاع عن نفسه فعلاً، ولكن دفاعاً ضد نفسه فقط".
ويقول: "أليس الغربيون أنفسهم هم الذين فعلوا ما يجب فعله لجعل وجودهم مقيتاً لا يطاق؟ يكفي أن تطرح المسألة على هذا النحو، كما يجب أن تُطرح، ليتسنى لأي شخص الجواب عليها في الحال. إنّ الشرقيين الذين أبدوا صبراً فاق التصور لا يحرصون إلا على أن يكونوا أخيراً أسياد أنفسهم في بلادهم. وعندما يلجأ أحد الشعوب الغربية إلى مقاومة الغزو الأجنبي لبلاده يسمى عمله هذا بـ (الوطنية)، ويُنظر إليه على أنه يستحق كل تقدير وإطراء، في حين عندما يصدر هذا النوع من المقاومة عن أحد الشعوب الشرقية يسمى عمله هذا بـ (التعصب الديني)، أو بـ (المعاداة للغرب)، ولا يستحق إلا كل ازدراء واحتقار".
ويقول: "ليس في الغرب سوى فئتين من الناس، تتصف كلتاهما بقلة الاكتراث وباللامبالة، ما عدا حالات استثنائية نادرة الوجود جديرة بالاحترام والتقدير:
أ ــ فئة السذّج الذين يتركون أنفسهم ينخدعون بتلك الكلمات الكبيرة الطنّانة، والذين يؤمنون بـ (مهمتهم الحضارية) غير مدركين أنهم ينتمون إلى البربرية المادية التي انغمسوا فيها.
ب ــ وفئة المحنّكين الذين يستغلون الحالة الذهنية هذه لإرضاء غرائز العنف والجشع لديهم، ومن المؤكد في جميع الأحوال أنّ الشرقيين لا يشكلون تهديداً، ولا يفكرون مطلقاً بغزو الغرب بطريقة أو بأخرى، فلديهم في تلك الآونة الكثير من العمل والجهد للدفاع عن أنفسهم ضد الطغيان الغربي الذي يكاد يضر بهم حتى في فكرهم، ومما يثير الغرابة حقاً أنّ المعتدين يدّعون أنهم الضحية".
ويقول: "إنّ ما يثير الدهشة والاستغراب في الفترة التي يغزو الغرب فيها كل شيء هو أنّ نفراً من الغربيين يرى في تسرب مزعوم لمفاهيم شرقية إلى الغرب تهديداً وخطراً يثير في نفوسهم الرعب! ما هذا التضليل الجديد"!
وما دام الغرب هو المسؤول الأول عن الخلل والشذوذ في العلاقة مع الشرق فهو المطالب أولاً وبالذات أن يصحح ما أصابه من خلل واضطراب، ولئن افتُرض أنّ الغرب سيعود بطريقة أو بأخرى إلى تقليده، فإنّ التناقض بينه وبين الشرق سينحل نتيجةً لذلك، فالعودة إلى التقليد سيتمخّض عنها نتائج أولية من بينها إتاحة الفرصة مباشرةً لخلق توافق مع الشرق، كما هو في جميع الحضارات التي تملك فيما بينها عناصر متشابهة أو متطابقة، لأنّ هذه المبادئ هي التي تشكل الأرضية الوحيدة التي يستطيع أن يقوم عليها هذا التوافق بشكل صحيح.
يرى غينون أنّ الفكر التقليدي الحق، وبغضّ النظر عن الشكل الذي يتخذه، هو ذاته من حيث الجوهر دائماً، وليست الأشكال المختلفة التي تتلاءم ملاءمة خاصة مع هذه العوامل والشروط الفكرية أو تلك سوى تعبيرات لحقيقة واحدة بعينها، لكن يجب التموضع في نسق الفكر الروحي البحت لاكتشاف هذه الوحدة الجوهرية بتعدديتها الظاهرة والواضحة.
إذن! ينبغي الاتفاق في المقام الأول على تلك المبادئ، وما إن تُفهم تلك المبادئ فهماً صحيحاً فسينعقد هذا الاتفاق من تلقاء نفسه، وفي المقابل إنّ التوافق الحاصل في مجال ما، خارج إطار المبادئ سيكون توافقاً غير مستقر وعابر، وأقرب ما يكون إلى تدبير دبلوماسي من كونه توافقاً حقيقياً، لذلك فإنّ هذا التوافق لا يمكن أن يتحقق فعلياً إلا على المستوى العلوي وليس على المستوى السفلي، أي يجب الانطلاق من النقطة العليا، من المبادئ للنزول تدريجياً بعد ذلك إلى مختلف التطبيقات مع مراعاة التسلسل التراتبي بين تلك التطبيقات مراعاة دقيقة. وهنا يردد روجيه غارودي في كتابه (حفارو القبور: نداء إلى الأحياء) كلام غينون ويعيده بحرفيته، ويتحدث عن وجوب أن يبدأ الإصلاح من أعلى متدرجاً فيما بعد إلى التطبيقات.
أما ما يخشاه غينون في هذا الصدد فهو أن تكون عودة الغرب إلى تقليده الحقيقي مجرد نوع من المواقف (المحافظة) تجاه ما هو سياسي وديني، وعندها سيدور في حلقة مفرغة ولن يخرج منها.
...
محمد أمير ناشر النعم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق