ساعات قَدَري بين الكتب

هنالك كتابان يحويان في عنوانيهما كلمة (ساعات)، الأول لشتيفان تشفايغ: (ساعات القدر في تاريخ البشرية)، والثاني لعباس العقاد: (ساعات بين الكتب). وحقيقة إذا أردت الجمع بين العنوانين على المستوى الشخصي قلت: (ساعات قدري بين الكتب)، لأن الكتب هي المحطات التي شكلت قدري ورسمته، وهي التي أمدتني بعصارة السعادة اللذيذة التي كانت تجتاحني بكلي،

حتى تصل لنقيّ عظامي.
وحتى هذه اللحظة كلما أردت استعادة لحظات الوجد الأرقى والأنقى استذكرت شعوري في ميعة صباي وأنا أشتري كتاباً، أو أقرأ مقالة، بدءاً من الصف الرابع حتى الصف السادس الابتدائي أيام السيَر الشعبية: (سيرة عنتر بن شداد، سيرة بني هلال، تغريبة بني هلال، سيرة سيف بن ذي يزن، سيرة الزير سالم، ألف ليلة وليلة)، والكونت ديمونت كريستو، وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني.
في الصف الرابع الابتدائي وقعت على نسخة ألف ليلة وليلة في المكتبة الصغيرة في بيت خالي هلال رحمه الله. وما إن بدأت بقراءتها حتى أمسكت بتلابيبي فلم تتركني. كنت في كل يوم جمعة أزور ذلك البيت في حي تشرين، وأُهرع إلى المكتبة لأستأنف القراءة. كنت أسألهم: ألا تريدون أن أحضر لكم الخبز من الفرن؟ فيقولون: نريد. ثم يعطيني خالي ثمن ربطتي خبز. وفوق ذلك خرجية مجزية. فآخذ معي نسخة ألف ليلة وليلة وأقرأ فيها وأنا أمشي في طريقي إلى الفرن. وعندما أصل إليه أُسرّ وأُسعد بوجود سلسلة طويلة من البشر، لأن الانتظار في الدور سيتيح لي فرصة أطول للقراءة. وفي المرحلة الثانوية سأقرأ في أحد كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أن ألف ليلة وليلة أسرته وهو في الصف الرابع الابتدائي أيضاً! ويومها لم يستطع مفارقة الكتاب إلى أن انتهى منه. وكان إذا طلب أهله منه أن يجلب شيئاً من السوق ذهب حاملاً الكتاب يقرأ فيه لا يحيد بنظره عنه! وكان الناس الذين يرونه يقولون: ما شاء الله! ابن الشيخ الطنطاوي لا يترك قراءة القرآن حتى وهو يمشي في السوق.
وفي الصف السادس وقع في يدي كتاب (الاختيار لتعليل المختار) في الفقه الحنفي، فراعتني غرابة الألفاظ والموضوعات، وأبهرتني متانة سبكها، فقررت الدخول إلى الثانوية الشرعية حتى أدرس هذا الكتاب بالتحديد، غير أن الوالدة المفجوعة بابني أختيها المساقين إلى سجن تدمر، (والمقتولين هناك فيما بعد) رفضت هذا الانتقال، لأن الثانوية الشرعية، في تلك الآونة، كانت تُعد إحدى معاقل الإخوان المسلمين. فدخلت الإعدادية العامة وكانت أيامها أيام التسكع أمام واجهات مكتبات (العبّارة) و(الجميلية). حفظت أسماء جميع الكتب المرصوفة في واجهاتها، وفي إحدى المرات نالني التعب من كثرة وقوفي أمامها، فدلفت إلى أقرب سينما، وكانت الكندي، واشتريت بطاقة، ثم دخلت ونمت في مقعدي مدة ساعة، ثم خرجت وأكملت سياحتي.
كان الصف السابع والثامن، بمعية الأستاذ الرائع أحمد يحيى بوادقجي، هما صفي اكتشاف مصطلح (الصورة الأدبية)، وكانت أيامهما أيام بداية تذوق الصور الأدبية، التي ابتدأت مع كتب: الإنشاء السهل، وتيسير الإنشاء، وتطورت مع نصوص ميخائيل نعيمة وغسان كنفاني، وعبد القادر المازني، وقصائد ابن الرومي. وكانت أيام (تاريخ الأدب العربي) لحنا الفاخوري، وأحمد حسن الزيات، وأيام (الأيام) لطه حسين، وأيام أحمد أمين في فجره وضحاه، وأيام مقدمة ابن خلدون، وآه من صعوبتها ولذة قراءتها في الآن ذاته في تلك السن!! وقصص القرآن، وقصص العرب لأحمد جاد المولى، وشرحي البستاني والبرقوقي لديوان المتنبي.
وفي الصف التاسع، وبمعية الأستاذ المميز حسن حسين، كان لكتاب (البرهان المؤيد) للسيد أحمد الرفاعي الأثر الحاسم في رسم المصير، فقررت الالتحاق، مرة أخرى، بالمدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية)، وفي هذه المرة عارضت الوالدة أيضاً، غير أن شكيمتي فاقت معارضتها مع مساندة خالي هلال قسطلي رحمه الله، الذي قال لأمي كلمة واحدة جعلها توافق: (غداً سيمسك بيدك ويدخلك الجنة شفيعاً لك)، أما جدي أديب ناشر النعم، فبارك هذا الالتحاق، وقال يومها: إن عائلة ناشر النعم لا يوجد فيها شيخ، وأنني بذلك أسد ثغرة في هذه العائلة، وأضاف: والآن ينقصنا فقط في العائلة ضابط في الجيش.
وفي الثانوية الشرعية (الخسروية) وجدت جنتي. كان أساتذتها خيرة الأساتذة، وعلى رأسهم أساتذة أساتذتنا: العلامة الفقيه الحنفي محمد الملاح، والفقيه الشافعي محمد عبد المحسن حداد، وأستاذ العقيدة الشيخ زين العابدين جذبة رحمهم الله جميعاً.
أما مكتبتها فكانت تضم حوالي ثلاثة آلاف عنوان، تشمل جميع المعارف الإسلامية، وكان الشيخ عمر مارتيني قد أوقف مكتبته النادرة لصالح الخسروية، وكانت كلها من نوادر مطبوعات الآستانة وبولاق، وفيها معظم المتون والشروح والحواشي في معظم

العلوم الإسلامية.
لعل من أكثر الساعات بهجة وسعادة في حياتي، وأنا في الصف الحادي عشر، يوم اشتريت من مكتبة عبد الغني مقيد مقابل جامع القرناصية قبل عوجة السجن الكتاب الذي سيغدو سميري، إلى حد الاستظهار، على مدار السنوات اللاحقة! أعني: (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) للمؤلف التركي حاجي خليفة، بمجلداته الستة الضخام بمبلغ 500 ل.س، وهذا الكتاب هو قائمة ببليوغرافية ألفبائية بأسماء الكتب في الحضارة العربية الإسلامية إلى زمن المؤلف الذي توفي في 1657م.
كان حاجي خليفة يورد اسم الكتاب، ثم اسم مؤلفه، ويتحدث عن أهمية الكتاب، وعن شروحه ومختصراته إن وجدت، وفي أثناء ذلك كان يورد من المعلومات والفوائد والعبارات والإشارات ما لا تجده مجموعاً في كتاب آخر. ويقال بأنه رصد حوالي عشرين ألف عنوان في كتابه.
على مدار أسبوع، من شرائي للكتاب، كنت كلما قابلت شخصاً أظن أنه يهتم بالثقافة أخبره أنني اشتريت (كشف الظنون)، أقول ذلك وأنا أطير فرحاً وجذلاً، وأستغرب لماذا لا يقوم ويرقص كما كان يرقص أنطوني كوين في فيلم زوربا! فالكون كله كان يرقص معي في تلك اللحظات.
كنت أقرأ عن هذه الكتب في كشف الظنون ثم أبحث عنها في مكتبة الخسروية وأتعرفها وأطالع فيها، وعلى مدار ثلاث سنوات استظهرت عناوين هذه الكتب كلها، وعرفت مكان كل كتاب وفي أي رف يتربع.
أما الكتاب الثاني الذي اشتريته في تلك الفترة وحاز منزلة تعادل منزلة كشف الظنون فهو كتاب (الكليات). لأبي البقاء الكَفَوي، المتوفى سنة 1093 هـ/ 1682م، وهو فقيه حنفي عثماني يُنسب إلى مدينة تقع في أوكرانيا اليوم، وكانت وزارة الثقافة السورية طبعته بتحقيق عدنان درويش ومحمد المصري في خمسة مجلدات، فاشتريته، وطلبت من المجلد (أبو زكور) رحمه الله، وكان يجلد الكتب في داره العربية قرب جامع إبراهيم الخليل في طريق الباب، أن يجمعها لي في مجلد واحد، وفعلاً جلّدها جميعاً فأصبحت مجلداً ضخماً، وكنت أضعه أمامي على الطاولة وأداوم على التقليب في صفحاته قراءةً وتعليقاً. وهذا الكتاب معجم فريد لمصطلحات الفلسفة، وعلم الكلام، والمنطق، وأصول الحديث، وأصول الفقه، والفقه الحنفي، والنحو والصرف، والبلاغة والعروض، ولعلي هنا أشير إشارة إلى فائدة المداومة على قراءة هذا الكتاب/الموسوعة، فهي تجعلك مأنوس الذهن بالمصطلحات التي ستصادفك لدى إبحارك في كتب التراث على اختلاف صنوفها، وهذا ما يسهّل عليك الفهم من أقرب الطرق وأيسرها.
ولعلع يحسن بي هنا أن أذكر أنموذجاً من علاقاتنا مع أصحاب المكتبات التي كنّا نشتري منها كتبنا، فقد اشتريت سنة ١٩٨٥ كتاب (إحياء علوم الدين) من مكتبة دار الفلاح في شارع أغيور، وكنت في الصف العاشر، وكان الشيخ محمد علي إدلبي الموجّه في المدرسة الشعبانية قد افتتحها سنة ١٩٨٤، بهدف نشر كتب شيخنا الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله.
وبعد فترة اكتشفت طبعات أخرى لكتاب (الإحياء) أجمل من الطبعة التي اشتريتها، فحملت النسخة إلى المكتبة وقلت للشيخ: أريد إرجاع هذه النسخة. فسألني عن السبب فأخبرته أنني اكتشفت طبعات أخرى أحسن.
أخذ الكتاب مني وهو يبتسم ثم سألني:
ــ في أي مدرسة تدرس؟
أجبته: في الخسروية.
فقال لي: إذن أنت طالب علم. فهززت له براسي، وقد ارتسمت ابتسامة افتخار عريضة. عريضة جداً على وجهي.
وعندها قال لي: إذن يجب أن ندعمك. أنت من الآن فصاعداً زبون مدلل، ويجب أن تكوّن مكتبة تليق بطالب العلم. ويجب أن تحسن اختيار كتبك. وبإمكانك أن تشتري أي كتاب مهما غلا وتدفع ثمنه بالتقسيط المريح.
ثم سألني: هل في مكتبتك (المعجم الوسيط)؟ 
قلت: لا.
فقال لي: لا يجوز أن تخلو مكتبة طالب العلم من المعجم الوسيط. وأخرج لي نسخة وقال لي: يجب أن تشتري هذه النسخة. فاشتريتها.
ولم أفوّت فرصة عرض اقتناء الكتب بالتقسيط، فأشرت إلى كتاب (البناية في شرح الهداية) لبدر الدين العيني، وكان في عشرة مجلدات ضخام، فقلت له: ما رأيك بهذا الكتاب؟
أجابني: إذا كنت حنفياً فهو ممتاز.
فأجبته: أنا حنفي. سآخذه وأدفع ثمنه بالتقسيط.
فتبسم ووضعه في علبة، ودفعت ثمنه بالتقسيط. التقسيط المريح جداً.
وتأثراً بالشيخ عبد الله سراج الدين، رحمه الله، قررت أن أكون محدثاً، فبدأت تمتلئ مكتبتي بكتب الحديث الشريف، وبكتب مصطلحه ورجاله، وخلال سنتين قرأت كل ما يمكن تخيله من كتب المصطلح، وحفظت المنظومات: (البيقونية)، و(غرامي صحيح)، وأجزاء من ألفية السيوطي، وألفية العراقي. وكانت تحقيقات كتب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وبخاصة لكتب الشيخ عبد الحي اللكنوي تذوب حلاوتها في عقلي كما تذوب قطعة النوكا بالفستق الحلبي في فم من يحبها، ومما كان يميّز الشيخ اللكنوي إضافةً إلى تحريراته وتدقيقاته وغنى معلوماته أنه كان يتعمد مخالفة السائد في تسمية تبويب كتبه، فكان يتفنن في بعض كتبه فيبنيها على المقامات بدلاً من الأبواب، فيقول: المقام الأول. المقام الثاني. المقام الثالث، أو يقول في كتاب آخر: المرصد الأول. المرصد الثاني. المرصد الثالث، وحتى في العناوين الفرعية يختار ألفاظاً مختلفة، ففي العادة يستخدم العلماء للانتقال عنواناً تحت مسمى: (فائدة)، أو (تنبيه)، أما اللكنوي فكان يستخدم كلمة (إيقاظ)، وكنت أعدّ مثل هذه الحركات نوعاً من المناغشات التي يناغش بها المؤلف قرّاءه. ورحم الله هذا العلاّمة الذي توفي في التاسعة والثلاثين، تاركاً أكثر من مئة عمل ما بين كتاب ورسالة.
وكان شاعراي المفضلان الرواس وأبو الهدى الصيادي، وكانت جميع دواوينهما موجودة في المكتبة، وكانت معظم أناشيد المنشدين في الزوايا وفي الأعراس من نظمهما، وهكذا كان اللحن الجميل ذي الديباجة المتينة يدعم الكلمات الرائقة، وكانت الكلمات الرائقة تدعم اللحن الجميل، وفي سنة ١٩٨٦ اشتريت من مكتبة الشيخ عمر زيتوني طبعة عثمانية حجرية من كتاب نتائج الأفكار شرح العوامل للبركوي، ووجدت على الصفحة الأولى العبارة التالية التي كتبها أحد متملكي الكتاب: "الاشتغال بالنحو بداية الحياة" ، ولا أدري لماذا دهمني يومها ولع غريب بعلم النحو، فاقتينت وقرأت معظم كتب ابن هشام، وابن الحاجب مع شروحها وحواشيها (الكافية، والشافية)، وكان شرح (المفصل) لابن يعيش سميري ورفيقي، وكم كانت تروق لي كتب الدكتور قباوة وتحقيقاته سواء في النحو أو الصرف ناهيك عن شروح (الأجرومية)، والشروح العثمانية الكثيرة لكتاب (العوامل) للبركوي، وكانت مكتبة الثانوية تضم جميع كتب الشيخ خالد الأزهري في علوم العربية، وكنت شديد التعاطف مع هذا العالم، لأنه كان خادماً في الجامع الأزهر يتولى إشعال السرج، وعندما تعرض لإهانة من أحد الطلبة قرّر أن يترك ما هو فيه وأن يلتحق بطلب العلم، وخلال فترة وجيزة برع وتفوق وغدا مؤلفاً، والآن اندثرت كتبه، ولم يعد لها من ذكر! ربما لأنها كانت مجرد كتب تعليمية تفتقر للابتكار، وفي هذا الجو المتشبع من كتب الأقدمين قرأت كتاب (تجديد النحو) لإبراهيم مصطفى، فأنكرت عليه دعواه، ولم أتذوقها، وأنكرت على طه حسين تقديمه وتقريظه، وكانت نسخة الخسروية مليئة بهوامش ردودي وتفنيداتي، وفي تلك الفترة كانت تتجاذبني تيارات متوترة، فمحبتي للتصوف أوقعتني في حبائل (مقالات) الكوثري التي استظهرتها بكل ما فيها من ردود على التيار السلفي، غير أنها في الوقت ذاته كانت ترسخ اتجاهاً محافظاً يدعو للتمذهب بمذهب فقهي محدد، وفي المقابل عرفتني محبتي لمصطلح الحديث على شخصيتين إصلاحيتين امتلكتا العلم والحجة: الشيخ طاهر الجزائري صاحب (توجيه النظر إلى أصول الأثر)، وجمال الدين القاسمي صاحب (قواعد التحديث)، فقد كانا رائدي الاتجاه الإصلاحي الديني في بلاد الشام، وكان لهما دور مهم في تحريك ما جمد وخمد وهمد.
وعندما كنت طالب بكالوريا سنة ١٩٨٧ حُبب إلي شراء مطبوعات مجمع اللغة العربية في دمشق، وفي تلك السنة طبع المجمع كتاب (الأشباه والنظائر) في النحو للإمام السيوطي، فاشتريت مجلداته الأربعة، وانهمكت في قراءتها والاستمتاع بكل ما فيها. وكان السيوطي ينقل في بعض الأحيان فصولاً كاملة من كتب سابقة مشيراً إلى اسم الكتاب واسم مؤلفه، وكان من جملة تلك الفصول الفصل المنقول من (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري. وكان المعري يعالج مشكلات صرفية في تلك الرسالة بلغته الغريبة التي تحتار معها! فلا هو يتكلم كما يتكلم الصرفيون، ولا هو يسرد كما يسرد الأدباء.
ثم راحت أيام وجاءت أيام وقرأت عند شيخ المستشرقين الروس العلاّمة كراتشكوفسكي كيف أنه اكتشف مخطوطة (رسالة الملائكة) مصادفة في مكتبة الأزهر، فطبعها كاملة لأول مرة، وعُدّ ذلك من اكتشافاته.
استرعت هذه الرسالة اهتمامه، على الرغم من كونها مجرد رسالة نحوية، لأنه كان قد ورث الاهتمام بالمعري عن أستاذه روزن. ولكن عندما بدأ يدقق فيها اكتشف ما يميّزها! حيث رأى أنّه "لو كان عند العرب فهرس للكتب الممنوعة والمحرّمة لاحتلت فيه هذه الرساله مكاناً مرموقاً. ففي الظاهر كانت الرسالة تتحدث عن موضوعات نحوية وصرفية، وتتكلم عن الصور الإعرابية المختلفة لأسماء الملائكة مصحوبة باقتباسات من القرآن والشعر وأقوال بعض أهل الأدب، إلا أن هذا لم يكن سوى غطاء الرسالة والشكل الخارجي لهـا. أما ما تحت هذا الغطاء فسخرية دقيقة يصعب فهمها على من لا يعرف آفاق أبي العلاء الأدبية، ومن لا يعرف أسلوبه في بناء مؤلفاته. وأبو العلاء يتمتع بمهارة فائقة في أن يلبس الجملة قناعاً يخفى وراءه فكره الجريء عن أنظار من لا يعرفون جوهر الأمر. أما في الحقيقة فإن الرسالة التي تبدو من الخارج رسالة نحوية تقليدية، تخفي وراءها هجاء لاذعاً وسخرية فكرية شديدة، من فهم بعض المسلمين لحقيقة الملائكة، وهذه الطريقة الساخرة لأبي العلاء هي نفسها طريقته في رسالته المشهورة، (رسالة الغفران)، حيث تجده بسخريته اللاذعة نفسها يتهكم بالوصف التقليدي القديم للحياة بعد الموت".
وفي تلك السنة درّسنا الفلسفة وعلم أصول الفقه الدكتور محمود عكام، وكانت جاذبيته وألمعيته لا تضاهى، فبدأت أميل لدراسة المنطق والأصول، وبدأت يومها باستقصاء كتب الأصول والمنطق، والقراءة فيها، واشتريت كتاب (المعجم الفلسفي) في مجلدين ضخمين لعلّامة جميل صليبا، وداومت على قراءته لأستأنس بمصطلحات المنطق والفلسفة أيضاً، وكان من مميزات هذا المعجم أنه في أثناء شرحه للمصطلح يورد استعمالاته كما وردت في كتب التراث الفلسفية أو المنطقية، وبذلك يقوم بعملية تحمية عقلية معقولة لمن يود أن يخوض غمار تلك الكتب. وبعد سنة بالضبط، وكنت طالب سنة أولى جامعية (كلية الشريعة جامعة دمشق) كتبت ونشرت أول بحث لي بعنوان: (اللغة بين علمي المنطق وأصول الفقه)، وكانت مكافأة نشر البحث 3500 ليرة سورية رصدتها لمطعم (ست الشام) خلف فندق الميريديان أعزم عليه أصدقائي وأصحابي، مرة تلو الآخرى. وكانت العزيمة الواحدة تكلف حوالي الثلاثمئة ليرة.
أخيراً في دمشق وجدت موئلي في المكتبة الوطنية، فداومت فيها أكثر من دوامي في كلية الشريعة، وكانت البؤرة الحضارية الأولى في سورية، وهنالك بدأت رحلة جديدة مع أسماء كتب جديدة مترجمة وغير مترجمة.




قراءة في كتاب (جَدَد القول. هموم وأوهام في الفكر الإسلامي). بقلم الأستاذ حسام الدين محمد.

يقدّم محمد أمير ناشر النعم، في كتابه «جدد القول: هموم وأوهام في الفكر الإسلامي» كشفا باهرا (ومؤرقا) لحال الفكر الإسلامي، الذي بدأ، في العصر الحديث، كما يقول، مع «أفاضل رواد»، خلفهم خلف «لم يبلغوا مبلغ عظمتهم فتمتعوا بهذه الثروة الثمينة على غير استحقاق، ثم بددوها تبديد السفه، وهدروها هدر المعتوه»، «حصروا مهمتهم في تطويق الإنسان تطويقا محكما» ليخرجوا علينا بنتاج، يسمّيه ناشر النعم، «فقه الهموم المتقزمة».

أنتج هؤلاء فتاوى «معرقلة» لاستقرار المجتمعات الإسلامية، ومعيقة لمسيرتها وتقدمها، لم تقتصر على العبادات، بل تدخّلت «في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية»، بحيث ناقضوا الأدبيات الإسلامية، وصارت خلاصة فتاواهم أن «الأصل في الأشياء المنع والتحريم»، فحرموا الاقتراض من بنوك الدولة (وحللوا بالمقابل «العقود اللئيمة» للتجار التي يصطادون بها المحتاج)، وارتياد الجامعات، والتجنس للمغتربين، كما حرموا السلام على أبناء وطنهم من الديانات الأخرى، وحرموا الاحتفال بعيد الأم إلخ.
يتطرّق ناشر النعم إلى أمثلة واقعية كثيرة عن «شيوخ الهموم المتقزمة»، مبينا الأضرار التي أصابت بلاد المسلمين ومجتمعاتها من أفاعيلهم، فيتحدث عن «دعاة القنوات الفضائية» الذين جلهم «رسل تسلية وترفيه»، بحيث «ما عاد بوسعنا تمييز الرصين من المبتذل، ولا الباحث من العابث، ولا الفقيه من الفهيه»، ويورد آراء دعاة يستخدمون سلوك الحيوان لإظهار «إعجاز التشريع الإسلامي»، عبر خط طويل يبدأ من حديث منسوب لعمرو بن ميمون عن «رجم القردة الزانية»، لنصل إلى «أبحاث إسلامية» عن «عقوبة النحلة السكرانة»، عند محمد العريفي، و»محاكم الغربان» عند زغلول النجار، وحكم «النملة الكاذبة» و«الحصان الفاجر عند عمر الأشقر!

من الآهات الإسلامية إلى باب المعاملات

من ذلك أيضا، إشارة الكاتب إلى قضية «الآهات الإسلامية»، التي اخترعت في تسعينيات القرن الماضي، في استوديوهات الخليج العربي، لتصاحب الأفلام والبرامج الدينية بدلا عن الموسيقى التصويرية، عبر «تلاقح اتجاهين: الحركة الإسلامية والسلفية»، وبذلك تولّدت الآهات عن «تحايل فقهي طريف»، يعتبره ناشر النعم أنموذجا حيا لمصطلح «البديل الإسلامي». أحد الأمثلة الساخرة على ذلك شارة بداية برنامج داعية سلفي يحرّم الموسيقى قطعيا، حيث نقرأ في شريطه «لا يوجد موسيقى فقط مؤثرات صوتية»، و»كأنهم يقولون: صحيح أنك تسمع موسيقى، ولكنها ليست بموسيقى، لأننا لا نسميها موسيقى، بل نسميها مؤثرات صوتية، لذلك هي ليست بموسيقى، فالحلال والحرام مرتبطان بتسمياتنا».

تلخصت فتاوى شيوخ «الهموم المتقزمة» بأن «الأصل في الأشياء المنع والتحريم»، فحرموا الاقتراض، وارتياد الجامعات، والتجنس للمغتربين

ينسحب هذا «التحايل الفقهي» الذي لم يعد طريفا، على ما يظهر، على جلائل الأمور وليس صغائرها فحسب، فيلخص قضية البنوك الإسلامية التي نجمت عن تزاوج الإسلامية المصرية مع الرأسمالية الخليجية، و«لما اكتشفت البنوك الأجنبية ذلك، راح بعضها يلعب اللعبة ذاتها»، والنتيجة، كما يرى، «ستغدو أفظع وأفدح من الفوائد»، بحيث تدخل المودعين، فعليا، في «باب الربا»، لأن مناط تحريمه «هو الظلم النابع من الاستغلال». يفكك الكاتب أيضا «أوهام الاقتصاد الإسلامي»، الذي هو «اقتصاد رأسمالي خالص مئة في المئة»، تواطأت السلطات وأصحاب الأموال فيه على سحب مدخرات الناس والضحك عليهم بدعوى «البنوك الإسلامية» و»التأمين الإسلامي» وغيرها، ويوضح كيف أن تعريفات الشيوخ له هي إعادة تعريف لباب المعاملات الفقهية متسائلا: «هل يمكن ان نذهب إلى أحكام الحرب في الإسلام ثم نؤسس من خلالها علما نسميه علم الحرب الإسلامي؟».

نكايات الفقهاء وخصومات المذاهب

لم يكتف البعض بأوهام الاقتصاد الإسلامي، وبتجاهل الفظائع التي ارتكبت عبر الخلط بين الفائدة والربا، ثم إقناع الجمهور بـ«البنوك الإسلامية»، ما نتج عنه معاملات خطيرة أدت لانهيار بنوك كبيرة، وخسارة المودعين لمليارات من ودائعهم، فإن بعضهم الآخر، كما هو حال مؤسسي مجلة «إسلامية المعرفة»، خاضوا أكثر من 25 عاما في هذا المجال الزائف، ليعودوا فيغيّروا اسم المجلة إلى «الفكر الإسلامي المعاصر»، من دون مراجعة او تقديم اعتذار.
يقدّم ناشر النعم بضعة اقتراحات لتفسير أحوال الفقهاء والدعاة، ليس الآن فحسب، بل عبر التاريخ، فيرى أن دارسي تاريخ التشريع توقفوا عند الأسباب الموضوعية والظاهرية، ولم يتناولوا دور الفقيه نفسه، ولم يمتلكوا «الجسارة التنويرية» لدراسة الأسباب الذاتية النفسية كالنكاية. يحفر الكاتب في هذا السياق تاريخيا، فنقرأ عرضا موثقا بالأسانيد المتصلة لآراء أئمة العلم بعضهم ببعض «فيصيبنا الذهول والعجب». تنشأ عن الفتاوى، فتاوى مضادة، ومواقف متباينة، فهي «في المحصلة ليست سوى مضاربة على كسب مرضاة ذبذبات السلطة، أو المعارضة، أو الشعب»، وتمتد النكاية إلى المذاهب والطوائف والأديان، فتصبح «أحد أبرز دوافع حركة الوضع والاختلاق».

من المفتي الماجن إلى المفتي الداجن

على المستوى السياسي، يعبر ناشر النعم بنا، من مصطلح «المفتي الماجن»، لدى أبو حنيفة، إلى «المفتي الداجن» في حقبة الاستبداد العربي الحديث، الذي يُفتي بالقتل ويشرّعه ويدعو إليه ويطالب به «إذا كان ذلك يرضي السلطة ويعجبها»، ولا يقتصر الكاتب على أتباع السلطات القائمة، فيتعرّض أيضا إلى «فقهاء المعارضة»، على ما هو حال «المجلس الإسلامي السوري»، الذي ترقى بعض آثار فتاواه، كما يقول، «إلى درجة الجريمة الإنسانية التي يحاسب عليها القانون الجنائي الدولي».
تفتح لنا بحوث الكتاب مروحة واسعة من الأمثلة على أنواع العطب التي أدت إليها ممارسات الاستبداد السياسي، وأتباعه من الشيوخ والفقهاء والدعاة، كما تضع بعض الفصول الاصبع على جروح فاغرة في «الفكر الإسلامي»، كما فعل حين تطرّق لموضوع تنظيم «الدولة الإسلامية» وردود الفعل عليه التي دفعت البعض لإعلان الرغبة في العودة إلى الوثنية، وحين تحدث عن حكم الترحم على غير المسلم، وتخلف الفقه الإسلامي في تناول مسألة الانتحار، وتنادي المسلمين لتأصيل العلاقة بين الديمقراطية والإسلام «وكأنها مسألة مستحدثة».
إضافة إلى اتفاقي مع الكاتب على مجمل النقاط التي تضمنّها كتابه، فإنني أجد في نفسي اتفاقا شديدا معه على مسائل تشغلني سياسيا ومعرفيا وشخصيا، منها وضوح موقفه من علاقة الاستبداد السياسي بالديني، ومنها الموقف من الديمقراطية، الذي أجد أنه أحد أهم أسباب العطب في أحوالنا العربية، وكذلك مسألة التسامح التي يفصّل رحلته الوجودية باتجاهها. لفتت نظري، كثيرا، انتباهته العظيمة لأهمية تعبير اللغة عن التطوّر الفكريّ، وقد لاحظت كيف تكشف هذه القضية معدن السياسي والعالم والناشط والحزب والنخب، بحيث يعكس انعدام الأصالة والإبداع والتخشّب في الأفكار والمصطلحات عقم الفكر والسياسة والاجتماع، فيهوي الشاعر إلى شويعر فشعرور، ويهوي الفقيه إلى مرتبة الفهيه، وكما ينطبق الأمر على الشعراء والفقهاء، فهو منطبق أيضا على النخب التي تتنطّع لنخب، تدّعي المعارضة، ولا تخرج، في منطوقها ومضمونها وأساليبها، عن السلطات التي تعارضها.
مفيد، في نهاية هذا العرض، أن يُشار أيضا، إلى أن كثيراً من «أوهام الفكر الإسلامي» تنطبق أيضا على أوهام الفكر العلماني، وكلاهما ينضحان من بئر الاستبداد، ولعلّ جذورهما، في النهاية، تلتقي ليس في أشكال التعصّب والتطرّف الأيديولوجي فحسب، بل في صدورها عن الميراث السياسي – الديني نفسه أيضا (ولهذا حديث آخر).

كاتب من أسرة «القدس العربي»

من الناقد إلى المُراجع: تحولات في النقد الأدبي المعاصر

 تشبه كتب النقد الأدبي في عصرنا الراهن، إلى حدٍّ ما، كتب لغات البرمجة في عالم الكومبيوتر، أو كتب دليل استخدام برامج الكومبيوتر. هذه الكتب التي تظهر فجأة فتلقى رواجاً وشهرة، ثم تظهر لغةٌ برمجية جديدة أو برامج أكثر تطوراً فتنسخ اللغة السالفة، وتزيل البرامج السابقة التي تصبح فجأة قديمة، فتفقد تلك الكتب أهميتها، ولا


تصلح إلا لتكون مادة تاريخية وثائقية محدودة القيمة! أوَ لم يقل إدوارد سعيد وهو يكتب مقدمته لكتاب إريش أورباخ (محاكاة): "إنّ تأثير كتب النقد وديمومة صيتها قصيران على نحو محبط. منذ الحرب العالمية الثانية ارتفع الحجم الإجمالي للكتب الصادرة  بالإنكليزية بنسب ضخمة ضمنت لها المزيد من قصر أعمارها إن لم نقل إنّه قضى
عليها بالزوال، وبأن يكون لها تأثير لا يكاد يُذكر" (1)

هل نستفيد من نقد رينيه غينون للإصلاح البروتستانتي؟

 يرى الفيلسوف والصوفي رينيه غينون، من خلال موقفه التقليدي الذي ينطلق منه، أنّ الإصلاح الديني البروتستانتي "لم يـقـد إلا إلى انحلال عقدي، فـلـقـد سـاهـمـت مـطـالـبـة البروتستانتية بعدم الاعتراف بأية حاكمية غير حاكمية الكتب المقدسة في


هدم هذه الحاكمية نفسها، لأنها تركت الباب مفتوحاً للمجادلات والاختلافات والانحرافات كافة"، فوصلت الأمور إلى النتيجة التي كان يجب أن تصل إليها : تلهف نحو التشتت غير محدود، وانقسام ناشط في الطوائف لا يقهر، بحيث لا تمثل كل طائفة منها سوى رأي خاص ببعض الأفراد، و"بما أنه من المستحيل في مثل تلك الظروف الاتفاق على عقيدة واحدة، فقد استبدلت بها الأخلاق وأحلتها محلها، لينتهي الأمـر بـهـا إلـى الـتـدرج في الانحلال أخـيـراً من (الأخلاق البروتستانتية) إلى ما يسمى بـ (الأخلاق العلمانية) التي تضم بين أنصارها ممثلي جميع تشعبات (البروتستانتية

Deutsche und Syrer zwischen zwei Zügen



Mohamad Amir Nasher Alneam:

In den späten dreißiger Jahren des letzten Jahrhunderts, und zwar nach dem März 1938 n. Chr., fuhr ein Zug von Deutschland und Österreich in alle Länder der Welt. Ein Zug, dessen Fahrten weitergingen und die Zahl der flüchtenden Menschen stieg, die in verschiedenen Teilen der Welt zu Flüchtlingen wurden.. Mit jeder weiteren Fahrt dieses Zuges wurden mehr Menschen erst zu Passagieren und dann zu Geflüchteten in verschiedensten Teilen der Erde. Deutsche, die aus Deutschland flohen, Österreicher, die aus Österreich flohen, und Polen, die aus Polen flohen.

(الغزو الغربي) بين رؤيتين: رؤية كانط، ورؤية رينيه غينون


كان كانط يرى في نظام الحكم الأوليجاركي (حكم الأقلية) السائد في أوروبا السبب الرئيسي والمباشر في ظهور روح (الغزو الغربي) والشَّرَه الاستعماري، حيث كانت تتسرب الأسلاب والغنائم إلى الأقلية الحاكمة.
كان سلوك الدول الأوروبية، في نظر كانط، مشيناً وبعيداً عن الإنسانية، و"خصوصاً الدول التجارية في قارتنا الأوروبية، والمظالم التي تنزلها في شعوب البلدان الخارجية يملأ نفوسنا بالرعب. إنّ مجرد زيارة هذه الدول لتلك الشعوب تعتبر كافية لغزوها، فقد اعتبرت الدول الأوروبية الاستعمارية البلاد التي اكتشفتها كأمريكا وبلدان الزنوج وجزر التوابل ورأس الرجاء الصالح وغيرها بلاداً مباحة لا تخصّ أحداً، ولم تقم وزناً لسكانها الأصليين، وقد وقع هذا كله من أمم ملأت العالم ضجيجاً ولغطاً بتقواها وورعها، وفي الوقت الذي تسقي فيه هذه الأمم الظلم كالماء، تعتبر نفسها صفوة الدين وشعب الله المختار".

النقد الأدبي: من شرطي أهوج إلى محقق بارع

قراءة في كتاب: "الأدب: نظرية ــ نقد ــ جدل". لباريس إخنباوم، ترجمة غسان مرتضى، صدر عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر. إسطنبول/ باريس(2021).

لطالما قرأنا، نحن العرب، مصطلح (الشكلانيَّة الروسيَّة) في كتب تاريخ النقد الأدبي، وقرأنا أسماء أعلام هذه المدرسة وأسماء كتبهم، ووصفاً لأعمالهم ومنجزاتهم التي تُعدّ نقلة هائلة أحدثتها هذه المدرسة بعيداً عن نظرية الفنِّ السائدة السابقة عليها، ولكن لقلّما قرأنا، أيضاً، إنتاج أرباب هذه المدرسة أنفسهم. هذا الإنتاج الذي تخطَّى بأهميته المحيط الروسيَّ لاحقاً، ليصبح في مركز اهتمام البحث العلميِّ العالميِّ، بحيث نتذوّق بأنفسنا حقاً وصدقاً معنى هذه النقلة الهائلة! إذ لم يُترجم إلى العربية من أعمال هؤلاء الأساتذة سوى بضعة كتب، كـ (مورفولوجيا القصة) لفلاديمير بروب، و(الاتجاهات الأساسية في علم اللغة)، و(قضايا الشعرية)، و(محاضرات في الصوت والمعنى) لرومان ياكوبسون (1)، في حين أنّنا لا نعثر على أي كتاب مترجم من هذه الكتب التي غدت من كلاسيكيات النقد الأدبي، ككتب لليف ياكوبينسكي، أو
فيكتور 
شكلوفسكي أو يوري تينيانوف، أو باريس إخنباوم.

حكم الترحم على المتوفى غير المسلم

المطران أنيس أبي عاد

تمهيد:

نعيت في صفحتي على الفيس بوك سنة 2017 أنيس أبي عاد المطران السابق

لموارنة حلب، وكنت أعرفه معرفةً شخصية فترحمت عليه بما لمست فيه من خصال اللطف والدماثة والإخبات، ونعيت سنة 2021 المفكر والكاتب والأكاديمي ورجل الدين المسيحي Hans Kong مترحماً عليه، وكان كما ذكرت في نعيي إياه: "أشبه ما يكون بخبير نزع ألغام الكراهية وسوء الفهم المزروعة في أرض المؤمنين على اختلاف أديانهم، وكان قد قدم خدمات جليلة للإسلام والمسلمين ولا سيما في كتابه Der Islam: Geschichte, Gegenwart, Zukunft.".

 

مدخل إلى دراسة التوريث الديني في سوريا المعاصرة

 
استهلال:

يُعدُّ (التوريث الديني) من أهم تجليات الظاهرة الدينية القديمة والمعاصرة، ومن أهم عوامل تشكيل الأسر والسلالات الدينية التي قد يتحول بعضها في لحظة ما إلى سلالات ملكية، كما حدث مع السلالة الإدريسية في المغرب أو السنوسية في ليبيا، وقد يحالف الحظ بعض الأسر فيكثر أتباعها ويعدون بعشرات الآلاف، أو بمئات الآلاف، وربما يفوق عدد أتباع بعضها الملايين، متوزّعين على عدة بلدان، وقد يحالف التوفيق ذلك التوريث فيُقال: "الولد سرُّ أبيه"، وقد يمسك الإخفاق بتلابيبه فيقال: "خُبث الرجل الصالح في منيِّه"! ونجد في القرآن الكريم إحالةً قديمة إلى هذه الظاهرة في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (النمل:
16)، ونسمع أيضاً ذلك الدعاء المتلهّف على لسان نبي الله زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 6)، ونقرأ أقوال المفسرين بأنّ المقصود بوراثة سليمان النبوة والملك، والمقصود بوراثة يحيى النبوة والمال.

هل يمكن أن نضيف مصدراً جديداً للمصادر التبعية في الإسلام؟



يقسّم علماء أصول الفقه مصادر التشريع الإسلامي إلى قسمين: المصادر الأصلية، وهي: القرآن والسنة والإجماع والقياس (يستبدل علماء أصول الفقه الشيعة بالقياس العقل)، والمصادر التبعية: وهي الاستحسان والمصلحة المرسلة أو (الاستصلاح)، والعرف، والاستصحاب، وشرع مَنْ قَبْلنا، ومذهب الصحابي، وسد الذرائع، وهذه المصادر التبعية لم يتم التوافق عليها بين المذاهب الإسلامية، فمنهم من رفض بعضها، ومنهم من ضيّق العمل بأحدها، ومنهم من توسّع فيه، وكان الخلاف في مصدرية هذه المصادر أحد بواعث اختلاف الفقهاء في الأحكام الفقهية التي يستنبطونها، ويدرك ذلك كلّ من خالط كتب أصول الفقه أدنى مخالطة، وقد كتب الأستاذ الدكتور مصطفى ديب البغا رسالة دكتوراة بعنوان: (أثر الأدلة المختلف فيها ــ مصادر التشريع التبعية ــ في الفقه الإسلامي).

السلطان محمد الفاتح في عيون الأديب النمساوي شتيفان تسفايغ

 Sultan Mehmed II. in den Augen des österreichischen Schriftstellers Stefan Zweig 

لا أتوقع أننا نقع في تاريخ الأدب بمراحله المختلفة على أديب كان مسكوناً بهاجس فهم العظمة، ومفعماً بهمِّ الدلالة عليها وتقديمها للناس، ليشاركوه متعة تعرّفها كشتيفان تسفايغ.

لقد كان هذا الأديب النمساوي الكبير شاعراً فريداً، وروائياً لمّاحاً، وكاتباً مسرحياً متألقاً، ولكنه كان، فوق ذلك، الكاتب الأروع والأذكى في كتابة السِّيَر الذاتية للبناة العظام (بناة العالم) الذين أضفوا على العالم كل مظاهر المجد. المجد في صوره البطولية كلها: الأدبية والفكرية والعسكرية، ولذلك كتب عن: تولستوي، ودويستوفسكي، وستاندال، وكلايست، وبلزاك، وديكنز، وهولدرن، وكازانوفا، ورومان رولاند ونيتشه وفرويد.


تناقض العلاّمة مرتضى مطهري في تقرير (ختم النبوة). الجزء الثالث

{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (الأحزاب: ٤٠).

بهذه الآية القرآنية يفتتح مرتضى مطهري حديثه عن (ختم النبوة) ليؤكد إيمانه المطلق بأنّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم ولا نبي بعده، ويفسّر مطهري مسألة ختم النبوة من جهتين:

تناقض العلاّمة مرتضى مطهري في تقرير (ختم النبوة). الجزء الثاني


ينطلق مرتضى مطهري في فلسفته لختم النبوة من الفكرة التالية: "المجتمع البشري كالفرد يمر بمرحلة الطفولة فالنمو فالمراهقة فالبلوغ [...]، وعندما تصل البشرية مرحلة البلوغ والعقل الكامل مرحلة النضج وتفتّق الطاقات والقابليات إذ تصبح قادرة على تقبّل القوانين التي هي أسس ومبادئ نظامها الاجتماعي والفردي فلا بدّ من إبلاغها وتعليمها، ويقال لها عندئذ إنّ هذا هو الوحي التام الكامل الذي لا بدّ له من هداية الناس وتعليمهم، وذلك أنها قد بلغت تلك المرحلة التي تشعر فيها أنّ كل ما تحتاجه عن طريق الوحي وكل ما ينبغي أن يُقال لها وتطبّقه أُبلغت به، وما عليها إلا المحافظة عليه وتكييف حياتها معه" (انظر: كتاب الإسلام ومتطلبات العصر، ص: ٢٢٥).

تناقض العلاّمة مرتضى مطهري في تقرير (ختم النبوة). الجزء الأول


 

يحظى العلاّمة الشيخ مرتضى مطهري (1919 ــ 1979) لدى الشيعة الإيرانيين بمكانة تضاهي بل تفوق مكانة العلاّمة السيد محمد باقر الصدر (1935 ــ 1980) لدى الشيعة العرب، فهو من أهم المفكرين الشيعة في العصر الحديث، ومن أكثرهم اتزاناً وحصافة، ومن المشايخ القلائل الذين تناولوا المواضيع الدينية والفلسفة الإسلامية بلغة معاصرة! وتصدّوا للماركسية ونقدوا رؤيتها الفلسفية والاقتصادية من دون اعتماد الحجج الخطابية ولا الاتكاء على لغة التهويل، ومن المعلوم أن مطهري كان من أنبغ تلامذة الفيلسوف المفسّر محمد حسين الطباطبائي، ومن أهم من شرح دروسه الفلسفية (١).

من المفتي الماجن إلى المفتي الداجن ٢/٢


يضعنا كتاب (تلبيس إبليس) للمحدّث الناقد، والفقيه المفسر، والصوفي الواعظ، والفكاهي الساخر ابن الجوزي، الذي يمتلك مثل الجاحظ موهبة الملاحظة وقوة التعبير، في الأجواء التي يُستنبت فيها (المفتي الداجن)، وهي أجواء الفقيه المتقرّب إلى السلطان بالفتر والشبر والمتر والكيلو متر، والمتزلف إليه بالزحف والمشي والهرولة والجري والعدْو، والذي يخالطه ويداهنه ويدّهن به! يرخّص له ما لا رخصة له، لينال من دنياه لعقة أو قضمة أو خضمة، "فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه:

الأَوَّل: الأمير! يقول لولا أني على صواب لأنكر عليّ الفقيه! وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من مالي!

والثاني: العامي! أنّه يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنَّ فلاناً الفقيه لا يبرح عنده.

والثالث: الفقيه! فإنّه يفسد دينه بذلك".

من المفتي الماجن إلى المفتي الداجن

(المفتي الماجن) وصفٌ أطلقه الإمام أبو حنيفة على صنف من المفتين يعلّمون الناس الحيل الباطلة، أو يفتونهم بجهل وحماقة، وتضرب كتب الفقه الحنفي مثالاً لذلك بأن يعلّم المفتي المرأة التي تريد فراق زوجها أن ترتدّ عن الإسلام، حتى يُفسخ زواجها، وتَبِين من زوجها، فلا يملك الزوج حق إرجاعها، كما كان يملكه في الطلاق الرجعي، وبعد الفسخ تعود المرأة إلى الإسلام وتدين به!

علوم الحيَل وثلاثة أوجه للحضارة الإسلامية

Tricks Wissenschaft und drei Aspekte der islamischen Zivilisation

عرفت حضارتنا الإسلامية ثلاثة علوم للحيل:

ــ علم الحيل الميكانيكية.

ــ علم الحيل الساسانية.

ــ علم الحيل الفقهية.

وكل علم من هذه العلوم يقدّم وجهاً مختلفاً لهذه الحضارة شديد الاختلاف عن الوجه الآخر فمرةً هي حيل تبني وتنتج وتطور، ومرةً هي حيل تهدم وتقوّض وتقلقل.

سرمد الكاشاني وتجديد عهد الصليب والمشنقة

Sarmad Kashani und die Erneuerung der Ära des Kreuzes und des Galgens


في مدخل جامع دلهي الكبير، معقل الإسلام في الهند، ضريح وليٍّ يحج إليه الزوار يومياً، ويقيمون له مهرجاناً سنوياً في 18 ربيع الأول ذكرى مقتله واستشهاده. إنه الشاعر الصوفي الشهير سرمد الكاشاني! تلك الشخصية التي يعرفها مئات الملايين في الهند وإيران، ولكن لم يسمع ولم يقرأ عنها العرب كلمة حتى لحظة كتابة هذا المقال ما خلا الأسطر القليلة المترجمة من الإنكليزية إلى العربية في كتاب آنماري شيمل (أبعاد صوفية في الإسلام)، والسطرين الواردين في مقالة لها بعنوان: (الحلاج شهيد العشق الإلهي) المنشورة في مجلة (فكر وفن) عدد 13 سنة 1969.